-A +A
صدقة يحيى فاضل
عادة ما يكون «اليمين» المتطرف (يمين اليمين) القابع في أقصى الثلث الأيمن من مستقيم تقسيم التوجهات الأيديولوجية ذي الأبعاد الثلاثة، متشدداً، لا يقبل الرؤى المخالفة له، مؤمناً بتفوق الفكر و«العنصر» الذي ينتمي إليه، وإن كان يتظاهر بعدم التعنصر.. وهو اتجاه يطالب بالعودة إلى التقاليد القديمة المحافظة جداً، ويؤكد على ضرورة التمسك بمعتقده في صورته المتطرفة، والانطلاق من تعاليمه أحياناً للسيادة على من حوله، وفرض تلك القيم (على «الكفار» بها) ما أمكن.

ومعظم اليمينيين المتشددين (أينما كانوا) ينظرون إلى العالم من هذا المنظار، ويعتبرون كل من هو مخالف لهم ضدهم.. يحسبونه شريراً، تجب محاربته، وحتى إشهار السلاح ضده! فـ«السلاح» لدى معظمهم، هو الأداة المفضلة.. لفرض ما يريدون على الغير. لهذا، كثيراً ما يصطدمون بالآخرين، وتوصف عقيدتهم بأنها «فاشية»، وسلوكهم إقصائي، وربما إرهابي..؟! عكس الليبراليين الذين هم أهل اليمين المعتدل، والوسط، الذين يؤكدون على مبدأ الحرية لهم ولغيرهم، ويغلب على فكرهم الطابع البراغماتي. إذ غالباً ما يرون أن «مصلحة» بلادهم وأمتهم يجب أن تكون فوق أي اعتبار أيديولوجي أو عقائدي. ومعروف أن التيار الليبرالي (الوسط) في العالم، بصفة عامة، هو الاكثر انتشاراً. وما زال الأقوى، رغم تصاعد في التوجه اليميني المحافظ. أما يمين اليمين المتطرف فما زال هو الأقل انتشاراً. ومعروف أن دساتير معظم دول العالم «علمانية».. أي أنها لا تنص على: الالتزام -في التشريع- بتعاليم دين معين.


****

وفي عالمنا العربي والإسلامي، توجد في معظم بلدانه -كغيرها- هذه التيارات، والتقسيمات. ومؤخراً، ظهرت في هذا العالم تيارات يمينية متشددة وبالغة التطرف. ومن المؤسف أن هذه التيارات ترفع شعار الإسلام.. زاعمة أنها تمثله، وهو منها براء. فالإسلام أنزل ليكون دين الوسطية والاعتدال، لا دين التطرف والتحجر والعنف. إنه دين الحرية والعدالة والمساواة والشورى والتكافل الاجتماعي.. لا دين الاستبداد والظلم والعنصرية والإرهاب. لذلك، فإن من المناسب أن نصف هذه الجماعات بـ«الإسلاموية»، وليس الإسلامية.

****

ولكل شخص مثقف طبيعي على وجه البسيطة، كما سبق وذكرنا، توجه عقائدي (أيديولوجي) معين، أو يمكن تعيينه، كثيراً ما ينظر إلى العالم من حوله، عبره. وغالباً ما يعتمد ما هو حق وما هو باطل لديه، استناداً عليه. وأن من «يعيب» أيديولوجية آخر، قد يعرض نفسه لذات التهجم. وهذا يذكرنا بأفكار الكاتب والفيـلسوف الإنجليزي «كولن ويلسون» (1931م – 2013م) وفكرته الرئيسة في كتابه الشهير (اللامنتمي)، الذي أصدره عام 1956م، وترجم إلى معظم اللغات. أنظر: (كولن ويلسون، اللامنتمي، ترجمة لمى فياض، بيروت: دار الآداب للطباعة، 1989م). ويمكننا، على أي حال، اعتبار المؤدلجين، وهم غالبية البشر، منتمين. ولنعتبر الرافضين - بحق- لكل الأيديولوجيات (لا منتمين)، كما سنوضح أدناه.

****

أصدر ويلسون، بالإضافة لكتابه هذا، حوالى مئة كتاب ورواية. تأثر بالفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر. وساهمت كتاباته في نشر الفلسفة الوجودية في أوروبا والعالم. وكتبت عنه عشرات الأبحاث والكتب. تناول في كتابه (اللامنتمي) عزلة المبدعين، من شعراء وفلاسفة، عن مجتمعاتهم، وعن أقرانهم، وتساؤلاتهم الدائمة عن هذا الكون، وخاصة مجال العقائد، وما بعد الحياة. ويمكن أن نلخص زبدة كتابه هذا، وفكرته الأساسية في عبارات قالها ويلسون نفسه، معرفاً (اللامنتمي). إذ قال: «اللامنتمي هو الإنسان الذي يعتقد أن ما تقوم عليه الحياة الإنسانية هو أساس واه. وهو يشعر بأن الاضطراب والفوضوية أكثر عمقاً وتجذراً من النظام الذي يؤمن به قومه. إنه ليس مجنوناً. هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين، أصحاء العقول». ويمضي قائلاً: «مشكلة اللامنتمي هي مشكلة الحرية. هو يتطلع دائماً لأن يكون حراً متحرراً. ويرى أن صحيح العقل ليس حراً روحياً، كما ينبغي. ولهذا، غالباً ما نجد اللامنتمي يلجأ إلى مثل هذا الحل (الفوضوي)... إذا قيض له أن يجد حلاً».

****

لن نسترسل مع كولن ويلسون في فلسفته هذه، ولكن ربما يمكننا استعارة لفظ (اللامنتمي) هنا ليكون نقيضاً للفظ (المنتمي) الذي نعرفه بأنه: الشخص الراشد العاقل المنتمي لأيديولوجية (عقيدة) معينة، والمتبني لها بالفعل. أما (اللامنتمي)، فهو الذي لا يعتقد بأي تيار أيديولوجي، ولا يرتبط بتوجه عقائدي وسياسي معين، مهما كان خيراً ومنطقياً. عقله المتحرر لا يقبل الانتماء إطلاقاً. أليست هذه أيديولوجية؟ ولا يشك أحد بأن الذي يؤمن (علناً وطواعية) بتوجه إيديولوجي ضار، أو بواقع حياتي فاسد، هو (منتمي). ولكنه إما منتفع (مادياً/‏‏‏ معنوياً)، أو منافق، أو جاهل، أو أنه كل ما ذكر. ومع ذلك، يظل مؤدلجاً، أو شبه مؤدلج. لِم لا؟!

كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com