-A +A
مالك عبيد
خطاب التحشيد الذي تتبناه أغلب القنوات الفضائية والمنصات الصحافية التابعة للأحزاب السياسية المؤدلجة، هو مرآة تعكس منهجاً فكرياً يتبناه عرابو تلك الأحزاب ومنظروها. وبالتالي فإن تحديات تلك المنصات غالباً ما تدور حول مدى قدرة هذه القنوات على ضبط معيار الانفعالات في أدائها، وفي صياغة ما تطرحه من محتوى أيضاً. ولا يستثنى من تلك التحديات إمكانيتها في التحكم بأداء طواقمها ونجوم شاشاتها ومنصاتها، كما يحدث على شاشة قناة الجزيرة وتوابعها. فما إن تطفو على السطح قصة خبرية حول قضية مختلف عليها، إلا وانفلت عقال الحياد، وتحولت القناة وكل من يرتبط بها إلى منابر رخيصة يملؤها ضجيج الأيديولوجيا، وفوضى الشتائم، والتخوين، وإطلاق الأحكام القطعية بلا أساس. وما فصول الشتائم وحفلات السخرية من المملكة جراء الهبوط الوقتي لأسعار النفط مؤخراً، إلا مثال بسيط يعكس حجم تجييش الأتباع والأزلام، ضد كل ما يخالف منهج الإخوان وحراكهم.

أزمة «هذا النوع» من الإعلام الذي تمثله قناة الجزيرة ومن يسير على نهجها، هو طغيان الأنا في أسلوب العمل. الأمر الذي يقتضي إلغاء الآخر كضرورة ملحة يقتضيها هوس «التمكين». الأمر الذي يدفعها إلى ترسيخ «حاكمية صحافية» عليا تمثلها قناة جزيرة وتوابعها، و«حاكمية سياسية واجتماعية» تعكس قناعة الإخوان المسلمين الراسخة بمسؤوليتهم عن كل شاردة وواردة في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، على وجه الخصوص. أما المجتمع فهو كيان فاقد للأهلية ومسير في خياراته. تفقد كياناته بأشكالها المختلفة شرعيتها بمقدار رفضها لأفكار الحزب ونظرياته. الأمر الذي يسقط فكرة الرأي والرأي الآخر من أية معالجة صحافية لقضايا الشأن العام. خطاب «التمكين» يقتضي محتوى موجهاً لا يعبأ بالحد الأدنى من الحياد، لأن الغرض هو تعبئة المتلقي وتجنيده وليس توسع مداركه. لذا يتحول العمل الصحافي برمته إلى صراع شرس بين الخصوم. تأخذ الجزيرة موقفاً منفعلاً يدور بمجمله حول فكرة واحدة مفادها أننا «نحن» قناة الجزيرة «حارس بوابة المعلومات» والطرف الوحيد الذي يملك الحقيقة. ويحدد اتجاه بوصلة الرأي والفهم. وليس على المشاهد إلا الخضوع لإرادتنا «نحن».


سنوات من الفوضى الصحافية، حملت لواءها قناة الجزيرة بإيمان مطلق. الأمر الذي جعل خاصية الصوت المرتفع أحد أهم مكامن السر ومسودات التفسير لما يظهر على شاشتها صحافياً وفنياً وحتى على مستوى الأداء. وهذا بدوره يعكس حدة الانفعالات المرتبطة بتضخم الذات لدى الأيديولوجيات والأحزاب السياسية على وجه العموم وعلى المنصات التابعة لها أيضاً. خطاب مكثف لا يسع المشاهد تحت ضغطه إلا الاختيار بين مسارات ثلاثة: إما أن يصبح تابعاً أو خائناً أو فاقداً للطمأنينة والثقة في كل شيء حوله. وهذا الخيار الأخير يشبه إلى حد كبير حالة الشخص الذي يتعرض لسيل من الصراخ حين يؤدي عملاً ما. الأمر الذي ينتج عنه شخصية مرتبكة ومحطمة.

بالنهاية ثمة فرق كبير بين خطاب قناة الجزيرة ومنصاتها المختلفة بما يشمل حسابات طواقمها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبين قيم العمل الصحافي ومواثيق شرف مهنة الإعلام. لأن الصحافي الذي يعجز عن الانتصار لمهنته، لن ينتصر لإنسانيته ولا لقضاياه حتماً. الجزيرة في تجييشها للجمهور وصناعتها لأتباع يتقنون دور الحشد الشعبي والمليشيات لا تشكل الخلاص، ولن تأتي بالنعيم لأبناء هذه المنطقة المكتظة بالتجاذبات الحادة. يبقى الرهان على تعزيز مفهوم الدولة الراعية لمصالح أبنائها فقط كما شاهدناه في محافل كثيرة هاهنا، بعيداً عن ترفية فكرية واهمة تلوح بها الأحزاب المؤدلجة.

* كاتب سعودي

malekObied@