-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أنا لا أجد مبررا لقولنا زمن قبيح وزمن جميل، فالقبح والجمال في كل عصر ابتكار إنساني، زمان كنا نسمعهم يقولون، لماذا كل الأمور تأتي خطأ؟ الآن نسمع كثيرين يقولون البلاد هي في طريق الصواب أو التصويب، وكما دائما نجد الحياة في مرحلة من مراحل العمر تمنحنا الألم، نجد كذلك أنها أحياناً «تجبر بخاطرنا» فتمنحنا السعادة الكاملة، نعم الألم لا يموت، الألم يعيش بداخلنا، ولكنه يتغذى على سعادتنا وحتى آخر أنفاسنا، كان الألم الحقيقي أن تذهب لقضاء أمر من الأمور في مبنى الأحوال المدنية، كان أكبر كابوس في حياة الفرد، أن يذهب لذاك المكان، حيث التجربة فيه مثل الاصطدام بحافلة ضخمة، لا تخرج منها إلا وبك كسر أو كسور، كان الناس يتعاملون أحيانا مع ذاك المكان، كالقشة في بعض أمورهم التي تنقذ الغريق، غير أن ذاك المكان هو الغريق، كان مكانا يتوقف فيه الزمان، يتوقف فيه تنفسك، ونبضك، فكل شيء يجعلك تنضح بغضب كبير مكتوم، فإن ذهبت باكرا، ستجد الموظفين هناك يتحلقون حول مائدة على شكل مكتب معدني، جار عليه الزمن، تغطيه صحف ورقية وأطباق من الفول المعدنية، وتميس وأكواب شاه، رائحة الباذنجان المقلي والطعمية، تنتشر في أركان الطوابق، يتحدث إليك بعضهم بفم ممتلئ بالطعام، يهمهمون لك ببعض كلمات مقتضبة، هو كل ما يمكن سماعه، وابتسامة مستفزة، وعبارة «تفضل معنا» تقال لك بتعال واحتقار، وأما إن ذهبت متأخراً فكل المكاتب خالية، إلا من شماغ وعقال، ملقى على كرسي المكتب، يقول إن ثمة شخصا موجودا رغم غيابه، الناس يمشون في الممرات كأنابيب الغاز المكتومة، فكل إنسان له معاناته الخاصة في ذلك المكان، لا تزال في قاع ذاكرتي، صورة الفراش الذي كان يقبع تحت المبنى، يشرب الشاي، ويرشدك إلى واجهتك أحيانا إن أراد، فبالإضافة إلى جلوسه هناك، تجده أحيانا يغسل سيارات الموظفين، ويقضي الطلبات المتنوعة، ويشتري الجرائد، ويشيل ويحط، ويصلح، ويطلع وينزل، ويقوم ويقعد، ويمشي محني الظهر، قدماه مشققتان، ومتسختان دائماً، تستطيع أن تلمحهما من بنطلونه القصير، الذي يشمر طرفيه في أغلب الأحوال، الكل يذكر ذاك المكان، القاتم البغيض، المترهل كجسد عجوز تحتضر، حيث كان إنجاز العمل يشبه المسلسلات العربية الركيكة، التي يسعى فيها الممثلون إلى استنزافك عاطفيا من غير أي مبرر مقنع، كنت غارقا في تلك الذكريات، وأنا أتجول في مبنى، مليء بالدفء والحميمية، وروعة المقصد، ودقة الفهم، وسلاسة التدبير، من الاستقبال وحتى الانتهاء من كامل الإجراءات، كأنني دخلت عالما آخر، الجميع اكتسب شخصية جديدة، المكان تحول إلى شحنة للطاقة الإيجابية والتفاؤل، مدرسة متقدمة من تقديم الخدمة في «القطاع العام» سرعة التنفيذ مدهشة والكل يتحرك في وقته ودوره المحدد إلكترونيا، لا مجال لشخص أن يتعدى على مكان الآخر، هذا المكان كان المراجع يحتاج إلى الاستعانة بفتوات من أجل البحث عن مكان في الطابور العريض الطويل، الذي لا ينتظم فيه أحد، كل شيء تغير، وجوه خيرة تبادر بتقديم الخدمات، بروح طيبة، سعيدة، راضية، مكان مجهز بكل وسائل الراحة للمراجع، كل شيء أنيق، مبهر، كل شيء ينجز بكفاءة ودقة، هذا المكان أصبح يملك خاصية الإيجاز والإنجاز، يجسد المواطنة الحقة وكيف يمكن تقديم جهد متألق للبلاد والعباد، أول ما يمر بخاطرك وأنت تشهد كل ذلك الفريق يعملون على قلب رجل واحد مهووس بصناعة الحلم وتحقيق الرؤية، هو البحث عن سر هذه الملامح المميزة، ومظاهر التقدم في هذا المكان، كالنظام، والنظافة، والحداثة في الأجهزة وسلوك الناس، وفي ارتفاع مستوى الأداء، ستجد إنسانا لا تحتاج أن تدق على بابه، كي يسمح لك بالدخول، لأن كل الأبواب مفتوحة على مصراعيها، ويحسن أهلها الاستقبال والاستجابة، تعرفت على من جعل هذا المكان يليق بعصره «الدكتور عبدالمنعم بن ياسين الشهري» عقلية إبداعية، نقل المكان من أسوأ مرحلة في حياته، إلى أفضل مرحلة، رجل ميداني، يخرج إلى الناس ويتلمس بنفسه احتياجاتهم، هادئ، لطيف، يبتسم ابتسامة ملائكية وهو يصافحك، هكذا نصف دائما البسمة الطيبة الحقيقية، البسمة الطرية التي تحمل كما هائلا من الطمأنينة، رجل بسمته تنير الدنيا، خبير في إدارة البشر، والمتابعة، والتقييم، وبشكل مستمر، للتصحيح والتصويب، حقق نقلات ملموسة في الاستثمار في الإنسان، غادرت المكان وروحي تطير، خطواتي خفيفة، كأنني أمشي على قطع من السحب، في حلقي حلاوة وهشاشة كحلاوة «المارشملو»، أبتلع سعادة الانطلاق والنجاح والتطور في بلدي، أشعر بمصابيح تضيء روحي، ورجفة تسري في قلبي، وحتى أطرافي الآن وهي تنقر على لوحة الحروف، تكتب برشاقة وخفة، الجمل تتسابق في ذهني وتتبلور وتسقط على الشاشة، ألم الماضي يتبعني، غير أن السعادة هي التي تطفو على شواطئ الحاضر بل وتفيض!!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com