-A +A
منى المالكي
من شبه المسلمات في حياتنا عامة والثقافية خاصة عدم الاتفاق والتشرذم فرقا وشيعا، والواقع على مدى التأريخ شاهد وبصدق على حالة التصادم المستمر بين الأدباء قديما والمثقفين حاليا، ولا أقصد هنا حالات الاختلاف الفكري أو النقدي في تصورات ورؤى مثمرة تخدم هذا الحقل الثقافي أو غيره، ما أعنيه هي حالات نرجسية ذاتية خالصة لا يرى فيها المثقف أو المبدع غير ذاته وذاته فقط، فيبدأ بالانشغال بهذه الخلافات عن عمله التنويري الحقيقي عندها يظهر مشتتا ممزقا في منتصف طرق لا يعلم أيها يسلك أو يترك، وتصل الحالة عنفوانها التعيس عندما يرى المثقف أن حالة الاختلاف والخلاف تلك إنما هي ميزة يعتد بها فيعلو صوته أنه ضد سياسة القطيع! هذه السياسة التي يراها عارا وشنارا على ثقافته وعمله الخلاق! والحقيقة أنه أشبه بمن كذب الكذبة وصدقها! فحالة التوافق والتلاؤم في خطاب عقلاني موحد أو على الأقل متفق عليه، هو من سيوصل هذا المثقف بعد ذلك إلى أن يكون هو من قادة التغيير الإيجابي في مجتمعه وعالمه، وأما حرائقه المتعددة فلن يجني غير لهيبها الذي سيحرقه أولا، والتأريخ خير شاهد على ذلك.
لنأخذ مجتمعنا مثلا ونرى أن دور المثقف في عملية التغيير إلى حد كبير هامشي بينما يضطلع بهذا الدور أصحاب خطابات أخرى تملك ميزة التنظيم الجيد والاعتداد بمنجزها الذي لم تنشغل عنه، بينما نرى أن الخطاب الثقافي ما زال في خطواته الأولى ورغم أن هناك جهودا حقيقية وصادقة للدفع بهذا الخطاب ليكون فاعلا ومؤثرا، وللأسف من خارج دائرة المثقفين أنفسهم! إلا أننا نرى أن المثقفين هم أنفسهم من يحمل المعول والفأس لهدم هذا المنجز! إما لأغراض ذاتية أو أهواء شخصية وبالتالي يقدمون نماذج منفرة للمجتمع الذي لم يستوعب خطابهم بعد أو أن أفراد المجتمع يرون ذلك الخطاب مشوها غير مرغوب فيه لأن منتجي ذلك الخطاب أنفسهم في حالة من الفوضى والشكاوى والتنافر.

ما يدعو للعجب الحقيقي من مثل تصرفات هؤلاء هو أن حالة التشرذم تلك ليست على منجز ثقافي أو قناعة فكرية أو طرح أدبي أو توجه نقدي أو حتى على مشروع مستقبلي لرؤية ثقافية أو استراتيجية معينة، كل ما هنالك هو اعتراض على آليات معينة لخدمة العمل الثقافي، لا تمس العمل الثقافي الحقيقي وإنما قناعات شخصية أو تخوفات تحت مسميات براقة ولامعة، وعندما يأتي العمل الحقيقي نجد أن من يدعي الحمية والخوف هو أول المنسحبين!
نعيش الآن فترة ذهبية لتكوين خطاب ثقافي حقيقي يساهم في التأثير والتغيير ويقدم مشروع الوطن قادته أرباب الفكر والثقافة، فرصة لن يجود بها الزمن مرتين، ولذلك لا بد أن يعي المثقف هذه الحقيقة فالظروف الراهنة جعلته يتقدم ويتوجب عليه تحت ضغط مسؤوليته الثقافية أن يتقدم ولا ينشغل بأمور ليست من صلب العمل الثقافي، ولا تخدم خطابه كذلك، فمن فاته القطار مرة لن يستطيع اللحاق به لأن الزمن وعوامل أخرى لن تساعده على ذلك!!