-A +A
غازي عبداللطيف جمجوم
من الصعب أن نجد في العصر الحالي من يحظى بمثـل ما حظي به الرئيس الراحل نلسون مانديلا من احترام عالمي ومحبة على مستوى الرؤساء والمنظمات والشعوب، وقد ظهـر ذلك جليا بعد وفاته يوم الخميس الماضي حيث نكست له أعلام عدد من الدول الكبرى وتم تأبينه بأبلغ الكلمات المؤثرة من قبل قادة هذه الدول والمنظمات كما احتشدت جموع كبيرة من الناس في بلاده وفي دول أخرى للتعبير عن حزنهم لرحيله. ومن المنتظر أن تجمع جنازته حشدا كبيرا من الرؤساء وأبـرز الشخصيات العالمية. كيف تم لسجين قضى 27 سنة من حياته في السجن كل هذا الإنجاز الكبير؟. قضية مانديلا الأساسية كانت كفاحه الطويل ، ولكن العادل ، في بلده، جنوب افريقيا، ضد التفرقة العنصرية البغيضة ــ الأبارثايد ــ التي انتهجها النظام الحاكم من قبل الأقلية البيضاء المستوطنة ضد الأغلبية السوداء أصحاب الأرض الأصليين. لم يغير مانديلا مواقفه رغم كل ما تعرض له من مطاردة وتضييق انتهى بالحكم عليه بالسجن المؤبد. ولكن ما ميزه عن غيره من المناضلين هو تفضيله لأسلوب المصالحة الوطنية ونبذ الكراهية والانتقام مما سهل على الحكومة البيضاء التوصل معه إلى اتفاق يرضي الطرفين مجنبا البلاد حربا أهلية كانت مشتعلة ومن المؤكد لها أن تستمر لسنوات طويلة. ربما فكر مانديلا في استخدام العنف خلال مرحلة من مراحل كفاحه ولكنه امتنع عن ذلك مختارا طريق المعارضة السلمية فكان غاندي النصف الأخير من القرن العشرين. لم يعمل مانديلا بمفرده إذ ساندته كبريات دول العالم التي رأت الخطأ الجسيم في أسلوب التفرقة العنصرية واستحالة استمراره، فقررت مقاطعة حكومة الأبارثايد اقتصاديا وعزلها عن المجتمع الدولي حتى لم تجد بدا من الانصياع للإرادة الدولية، وساعدها على اتخاذ القرار السليم وجود قائد يتمتع بالمحبة الكبيرة والتأثير الفائق على مواطنيه. كانت النظرة المعتدلة المتسامحة هي المنهج الذي اختاره مانديلا حيث يقول: «قاتلت ضد هيمنة البيض وقاتلت أيضا ضد هيمنة السود وتعلقت بمجتمع ديموقراطي حر ، وهو مبدأ أنا مستعد للتضحية بحياتي من أجله» . ربما كانت مهمة مانديلا أصعب من مهمة غاندي. فقد كان غاندي يحارب أقلية مستعمرة عابرة لا تشكل إلا نسبة صغيرة من سكان القارة الهندية، بينما حارب مانديلا نظاما عنصريا مستوطنا يشكل نسبة مؤثرة من السكان متشبثة بوجودها ولا تنوي الرحيل. أكثر ما يشابه نظام الأبارثايد الزائل في جنوب إفريقيا في الوقت الحالي دولة العدو الإسرائيلي في فلسطين. والحقيقة أن أسلوب مانديلا في التخلص من نظام التفرقة العنصرية هو الأسلوب الأمثـل بل الوحيد بالنسبة للقضية الفلسطينية. إسرائيل هي آخر دولة تقوم على مبدأ العنصرية المستوطنة، ولذا لا بد لها من الزوال في شكلها الحالي أو التغير بشكل جذري في يوم ما واستبدالها بدولة ديموقراطية يتمتـع مواطنوها بالمساواة في الحقوق والواجبات مع احترام الحريات المختلفة. طبعا إسرائيل ترفض حاليا مثـل هذا الحل تماما وقد تقبـل بحل الدولتين الذي يضمن لها وجود أكثرية يهودية في الدولة العبرية. مع ذلك فلا يمكن استمرار قيام تلك الدولة العبرية على مبادئها العنصرية طويلا.
ولكن أي تغير ديموقراطي عادل لصالح الأشقاء الفلسطينيين لن يأتي بسهولة بل بالمثابرة على الكفاح العادل مهما طال الزمن. مانديلا قال: إن «ثورة جنوب أفريقيا لن تكتمل أهدافها قبل نيل الشعب الفلسطيني حريته» ونأمل أن يتحقـق ذلك .

في المقابل يصعب على العالم قبول شعارات مثـل «إزالة إسرائيل من الوجود» أو «رمي اليهـود في البحر» .. مما يوحي بعنصرية معاكسة لم تعد مقبولة بل تضر بالقضية الفلسطينية أكثر من أن تخدمها. من ناحية أخرى ما أحوج الدول العربية التي يستعر فيها الصراع مثـل سوريا والعراق والصومال وليبيا واليمن وتونس ومصر ولبنان والسودان إلى الاستفادة من نهج مانديلا. قس على ذلك كل الدول الأخرى التي يستعر فيها الصراع المسلح ، سواء بسبب العنصرية الاثنية أو القبلية أو الدينية أو المذهبية معظم الاختلافات في هذه الدول لا ترقى إلى الاختلاف المتعدد الجوانب الذي كان قائما بين الأقلية البيضاء والأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا والإرث العنصري البغيض والكراهية. أغلب هذه الصراعات لن تؤدي بسبب تشدد الفصائل المتناحرة إلا إلى المزيد من سفك الدماء وخراب البلاد أو تقسيمها وتشريد السكان ومعاناتهم. المنطق يقول إنه إذا كان بالإمكان لجنوب أفريقيا التغلب على كل اختلافاتها بحكمة قادة مخلصين مثـل مانديلا فلا شك أن بالإمكان لكل هذه الدول العربية وغيرها أن تـتوصل إلى حلول مقبولة لكل مشكلاتها.. المطلوب أن يتكرر نموذج منديـلا في كل دولة من هذه الدول.