-A +A
علي حسن التواتي
من عرف مدينة الرياض قبل طفرة سبعينيات القرن الماضي أو في بدايتها، يمكنه بسهولة تبين أن طبيعتها الجغرافية معقدة بما لا يكفي لاتصال المباني والأحياء، واستبدالها بتجمعات سكنية ذات طبيعة تشتتية تفصل بينها في الغالب وديان أو مرتفعات جبلية، تتفاوت في عمقها وارتفاعها من وادٍ عميق مثل وادي حنيفة أو البطحاء إلى جبل مرتفع ضمن سلسلة جبال طويق والعارض قد يصل ارتفاعه إلى 1100 متر عن سطح البحر.
ولقد اكتسبت معظم أحياء مدينة الرياض القديمة أسماءها من هذه الطبيعة الجغرافية؛ مثل أم سليم نسبة لكثرة شجر السلم فيها، وثليم وهو الفتحة في الحاجز الترابي لتصريف المياه، والظهيرة وهي المنطقة المرتفعة الداعمة أو المساندة لمنطقة منخفضة فهي أشبه ما تكون بالظهر بالنسبة للإنسان، والبطحاء وهي المنطقة الرملية المنبسطة، ومنفوحة وهي منطقة الهواء العليل وموطن صناجة العرب أعشى قيس صاحب هريرة الذي خلد وداعها في معلقة علقت على جدار الكعبة في الجاهلية، والحائر الذي يعني القاع المجاور لمنطقة أعلى منه والذي تتجمع فيه المياه مثل حائر منفوحة الذي ذكره الأعشى في شعره ويسمى اليوم حائر سبيع، وهناك المصانع التي تعني مجاري الماء والفوارة التي تفور بالمياه وصياح أو سياح وتعني سياح الماء وتدفقه وجريانه والمعذر الذي يعني الروضة الكبيرة.

أما الرياض نفسها فتعني المنخفضات ذوات الأشكال والأبعاد المتباينة. فقد تكون دائرية أو مستطيلة. ولانخفاض مستوى الأرض في الرياض، فإنها تتلقى الرواسب المحمولة بالمياه والرياح، علاوة على ماء الانسياب السطحي. وهناك أنواع من النباتات المعمرة التي تنمو في الرياض مثل السدر والعوسج والسمر والعرفج.
ولكن يبدو أنه مع اندفاعة الطفرة الأولى الهوجاء وظهور الحاجة إلى كل شبر من الأرض لاستيعاب السكان الأصليين والوافدين من مناطق المملكة الأخرى ومن دول أجنبية، اختلط الحابل بالنابل واتصل العمران دون مراعاة لجغرافية المنطقة التي احترمها أجدادنا الأوائل لآلاف السنين. ولم نعد نتبين في جغرافية المدينة التي تبلغ مساحتها اليوم أكثر من ألفي كيلومتر مربع الوديان من التلال والهضاب من الوهاد إلا من خلال الارتفاعات والانخفاضات الجبرية التي تفرضها التضاريس على من يقود سيارة في الطرقات. وحتى هذه التضاريس لم تسلم فاخترع لها مشروع تحت مسمى (إزالة المرتفعات في شوارع الرياض) دون احترام لطبيعتها الجغرافية. فتلك المرتفعات عبارة عن هضاب وتلال مرتفعة تنحدر من فوقها مياه الأمطار لتستقر في المناطق المنخفضة المحيطة بها وحينما نزيلها أو نزيل جزءا منها نسهم في اتصالها بالمناطق المنخفضة واتصال المناطق المنخفضة ببعضها البعض على مستوى الأحياء وعلى مستوى المدينة، فكأنما نحن نحول المدينة من حيث لا ندري، إلى خزان كبير لتجميع مياه الأمطار.
والأمطار ليست حالة نادرة في تاريخ الرياض ولكنها شبه دائمة في موسم الأمطار، وهذا ما جعل منها مستقرا لحضارات قديمة ورياض ومزارع وحدائق وبساتين متصلة بل وأعطاها اسمها. وهذا ما يدعونا للتساؤل عن عدم استيعاب البعد البيئي في التخطيط والتصميم للمدينة الذي أشرف على تخطيطها مهندسون ومعماريون وخواجات.
ومن يريد أن يتعرف على المعالم الجغرافية المطموسة لمدينة الرياض اليوم من غير أن يضيع وقته في الاستماع للمحاضرات والنظريات التي أوصلنا أصحابها إلى ما نراه اليوم من واقع محزن، ما عليه سوى زيارة أطرافها ليشهد التنوع الرائع لتضاريسها من مرتفعات ووديان وجروف حادة ومزارع وبساتين كثيفة، سواء في الدرعية أو سدوس أو صلبوخ شمالا أو ديراب وطريق الحجاز جنوبا أو هيت شرقا. فقد بنيت الرياض على مثل هذه التضاريس، وما زال في نطاقها العمراني مناطق جبلية مثل جبل أبو مخروق الذي يبدو أن مشروع إزالة المرتفعات عجز عن إزالته فحولته الأمانة إلى حديقة جبلية للترفيه عن سكان الأحياء المحيطة.
لذلك أرجو ممن بيدهم مقاليد الأمور في إدارة مدينة الرياض أو غيرها من المدن السعودية الأخرى، خصوصا تلك التي تجتذب الناس ببريقها مثلما تجتذب النار الفراشات الهائمة أن يحترموا التضاريس الجغرافية والظروف البيئية للمدن التي ابتليت بهم وابتلوا بها، فعدم احترام الجغرافيا والبيئة ثمنه باهظ وربما لن تقدر الأجيال القادمة على تحمله. فاليوم لدينا موارد فائضة يمكن أن توظف في تصحيح أخطاء أو تغطية قصور ما كان له أن يكون أصلا، ولكن يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن هناك تاريخا لا يرحم وأجيالا تستحق أن تعيش بشكل جيد.