-A +A
فؤاد مصطفى عزب
كل مدينة لها وجهان: وجه حقيقي ووجه أنت تحب أن تراها عليه.. هناك مدن سلالها ملأى بالنجوم الطازجة تسكب ألوانها فوق عينيك ما أن تطأ قدماك أرضها، للأشجار فيها أسماء وللنباتات المتسلقة على الحوائط ألوان.. هناك مدن تعاملك كطفل مدلل، تفتح صدرها لك وترفع قبعتها احتراما من أجلك.
وأخرى تبصق في وجهك بعد أن تسرق منك كيس الأمنيات.. يظل سائق التكسي في الاثنين عنوانا لها وسفيرا متوجا بلا منازع .. وللأسف أن كل السائقين في مدن العالم يتوخون منك إعجابك وحبك للموسيقى بنفس القدرة والمزاجية التي هم عليها. فسائق التكسي في نيواورلينز في لويزينا يسقيك من «الجاز» حتى تغني له بأبي أنت وأمي كفى يارفيق الصباء .. والسائق النمساوي في فيينا يشيع الكلاسيكية في المرسيدس حتى تغفو ويتمازج شخيرك مع خرير الدانوب الأزرق.. أما القاهري في ديرة المعز فيلبسك الجلابية البلدية حال دخولك في التكسي، وذلك بطرح الجديد من الغناء الشعبي مع رقص للحواجب والوجنات والأعضاء المتحرك منها والثابت، والتي تضفي على الجو نوعا من الوناسة الممزوجة بشي من القلق والخوف من المصير، وتجعل عينيك مثبتتين على آية الكرسي والخرزه الزرقاء المتدلية من المرايا، وإمعانا في الوناسة والبهجة وتزامنا مع الكوبليه المناسب يقوم ((الأسطى)) وبحركة انبساطية برفع المزيكة ليداهمك صوت الغناء الشعبي المحرف الذي ينبعث من السي دي .. أما في دبي فما حدث لي في رحلتي الأخيرة شيء مختلف .. فقد سحبني السائق ((الأفغاني)) من أذني وطاف بي في الشوارع حتى أحسست أن مشواري أصبح طويلا كأغنية من أغاني أم كلثوم .. وعندما اعترضت قال لي بأن الظن هو الإثم، فجردني حتى من خدعة الظن، وعندما طلبت منه أن ينحرف يمينا لمعرفتي بالطريق المختصر ما كان منه إ? أن عنفني بكلمات كالرصاص ناعتا إياي بالبخل لأنني أريد اختصار المسافة .. كان يتحدث بملمس خشن يذكرني بالجفاف .. كان قطعة فحم مشتعلة، وكان ينفخ فيها واستمر في الغضب.. كان رجلا مسنا منقوعا في الغضب.. حدثت نفسي قائلا هذا رجل ?شك أنه يحمل ألما في جوفه وأنا ? أريد آلاما في هذا المساء.. تركت نفسي كمركبة بلا واجهة وعالجت الأمر بالصمت.. كنت أعيد ترتيب أفكاري وأراوغ الوقت.. قلت في نفسي هذا رجل يحمل خرابا كبيرا في قلبه لن أشاركه سكناه.. حافظت على هدوئي الأبيض.. كان إلحاحي الداخلي أن أتماسك كنت أكافح السواد الذي أحاطني به، كررت لنفسي لن أعيش غضبه سأترك ظلامه له .. صرت أفكر كثيرا بهذا الشكل مؤخرا، لقد تعلمت هذه الحيلة كلما واجهت شخصا غاضبا يحاول أن يأكل الطاقة الإيجابية التي أختزلها.. الستون تعلمك أن ? أحد يستطيع إفساد يومك غيرك!! أفلت من ذلك السواد بابتسامة رسمتها على زجاج العربة الرطب ثم كسرت حاجز الصمت الثقيل الذي سيطر عليه حتى أعتقدت أنه فقد النطق.. قلت له المعذرة لم أكن أشك فيك جنبك الله الشبهة وعصمك من الحيرة كنت فقط متعبا وأرغب أن أصل الفندق في أسرع وقت لقد كان يومي طويلا ومرهقا.. نظر إلي وعدل نظارته وأطل في المرآة ثم انفجر في البكاء.. شعرت بأعشاب دموعه في ظهري رجاني أن أعذره شرح لي أن يومه كان من أتعس أيام حياته، فقد رحلت طليقته وابنته إلى أفغانستان اليوم.. وفقد منزله العائلي.. كان قلبي ينصت إليه.. ظللت أشعر به وهو يشرح لي كيف حدث الطلاق نتيجة قلة الموارد وضيق الوقت المستقطع للشؤون العائلية.. هونت عليه المرارة التي يشعر بها، كان يتحدث ودمعات ثقيلة ? تترك عينيه وحتى وصلنا الفندق.. عند مغادرتي العربة حضنني ورفض أخذ أي مقابل، ثم لوح لي بيده ومضى.. أختفى بين العمارات الشاهقة النائمة.. كانت أم كلثوم تصدح في ردهة الفندق «ياليلة العيد آنستينا».. كان في البهو أناس وألفة.. كنت بعيدا عنهم حيث الأفغاني بلا بيت.. بلا زوجة.. بلا طفلة.