-A +A
فؤاد مصطفى عزب
صباح لطيف خفيف الجسم ذو أنامل عارية.. في الساعة الواحدة والنصف ظهرا غادرت الفندق متجها إلى موعدي في الساعة الثانية والنصف كان الموعد مع طبيبة متخصصة في الطب الصيني ملاذي الأخير للعلاج من حساسيتي المناخية التي تورطني فجاءة في أزمات من العطاس والدموع.. مرت بي أزمة عطاس قاسية وسعال متواصل جعلني أمضى ليلتين متتاليتين في السهر حتى الصباح وهذه هي المرة الأولى التي أخرج فيها من الفندق بعد ثلاثة أيام من الحصار في عتمة الغرفة.. كان الطقس مرتبكا في نيويورك التي إما أن تقع في غرامها إلى حد الجنون أو تكرهها كما لم تكره أحدا من قبل.. قررت أن أستخدم «الأندر جراوند» أسهل وسائل المواصلات وأقذرها في نيويورك.. في طريقي إلى «الأندر جراوند» شاهدت شخصا يركل لائحة لأوقات القطار منصوبة على الأرض ويبصق عليها ويصب بين الحين والحين جرعات من قنينة كان يخرجها من جيبه.. كان الشخص داكن البشرة فسرت أسبابه بيني وبين نفسي وأولت أفعاله لكن حين هبطت من «الأندر جراوند» لاح لي شخص آخر يتمتع بنفس لون البشرة يعزف على القيثارة ألحانه الكاريبية ووجهه وجسده المتراقص يشعلان البهجة.. رميت في قبعته الموضوعة في فسحة تقع في نهاية السلم الكهربائي بعض السنتات ومضيت لأعقد مقارنة بينه وبين ذلك الشخص الآخر مستنكرا فعل الإنسان ومتأملا مصيره الوجودي على هذا الكوكب.. وصلت العيادة.. كانت مستقبلتي جندية من عسل وكشارع لا حق له في اختيار المارة استسلمت إلى ذلك العالم الغامض.. كنت واجما أرتجف وأنا أشاهد الإبرة اللامع نصلها تدخل في جمسي الرخو.. كان جسمي جامدا كحصان من حجر تجري فيه صدمات كهربائية بحجم ألف فولت وعيناي زجاجا في محجر.. كل شيء يمر أمامي وأنا ممدد على السرير البارد الخشن بما في ذلك المسلسل الصيني الشهير «كين» كنت محشورا في جسدي كل ما في متماسك ظاهريا إنما هو متناقض داخليا.. فكرت أن أنهض وأن أفلت من هذه الشرنقة التي تكبلت فيها بإرادتي وأخرج نفسي من هذه الورطة.. تذكرت أن الخروج دائما من اللعبة أكثر صعوبة من الدخول فيها كانت المسألة التي تزعجني أكثر أنني سوف أعطي هذه الطبيبة حجة قوية أنني متمرد وأنني لا أستحق العلاج..كانت الطبيبة تنصحني وهي تدخل الإبرة تلوة الأخرى أن أحاول تخيل طوق من الشموع فوق رأسي وتخيلت طوق الشموع وأحسست بإشعاع من رأسي حتى أخمص قدمي بل كنت أحس بذوبان الشموع حارا في كتفي فأرتجف قوة وشموخا كديك رومي وانتهت المحاولة وأنا نصف مستيقظ.. كنت مثل درويش خارج للتو من حلقة ذكر يميل برأسه يمينا وشمالا.. لكم هو جميل بأن يتحسس المرء سخريته.. طب صيني أيه وبطيخ أيه! خرجت من العيادة مكافئا نفسي بالتسكع بين مكتبات نيويورك القديمة.. شريت بعض الكتب وجلست في أقرب مقهى أنا وكتاب ومنفضة تبغ وكبتشينو أدخن وقتي.. مطر خفيف يبلل فروة رأسي يجبرني على الانسحاب.. المقهى مكتظ بالداخل استسمحت رجلا مع كلب يجلس القرفصاء بجواره يحدق في السيارات المركونة أمام المطعم والمارة أن أشاركه الطاولة هز لي رأسه بوجوم الكائنات في نيويورك التي لا ملامح لها.. وجوه تسقط في الوجوم! أسمع أغنية «شكيرا» فيها خليط من الألحان العربية.. يتصل بي حفيدي «آدم» يسألني عن أخباري على المحمول! بدأت عيون مستضيفي تتحرك في محورها بشكل قلق بعد أن استمع لأطراف حوارنا بلغة لا يفهمها.. صوته يأتي من بعيد كان صوته حنونا.. أما زلت موجوعا يا جدو! ألم خفيف! لا تجعل الألم يا جدو يؤلم فرحك! كان صوته صافيا كالنهر.. تبادلنا الحكايات.. أسرفت في الحديث حاولت أن أراوغه حتى لا يفر الدمع مني.. اشتقت إليك.. متى أراك.. وانتهزت دمعة هطول ذلك الحنان على أذني فخرجت لتتنزه في رحاب الخد وتضاءل الصوت ثم تلاشى وتوقف الكلام عن الكلام وتداعى على الشفاة الصمت ليكبر بعده الشوق.. يا الله ما أجمل الحنان.. يا الله ما أجمل الأحفاد.. ياالله كم هي الحياة قاسية بعيدا عنهم.. صدق صديقي الجراح العالمي الدكتور/ حسن نصر عندما كان يقول لي إن الأحفاد أفضل مضادات الاكتئاب!