-A +A
فؤاد مصطفى عزب
في مرحلة من مراحل العمر ينتابك إحساس أن الزمن يمشي بسرعة.. يجري خطفا .. هذه المرحلة هي عندما تصل العمر الذي تتبع فيه رجيما خاصا وتشرب قهوتك بدون سكر وتقلل من الملح كثيرا.. بل وتقلل من أشياء كثيرة في حياتك !! مرحلة تفعل فيها كل شيء بحساب لأن كل شيء آخر سيكون انتحارا.. ولأنها مرحلة لابد أن تقرر فيها المهم من غير المهم قبل أن يختلطا.. اتخذت قرارا أن أقتني بيتا يناسبني في مكان يناسبني يبعد محيطا كاملا عن المكان الذي أسكنه.. فكرة جنونية.. بل هو الجنون نفسه.. ولكن من قال إن أحدا يعرف ما توحي به الستينات.. اخترت عالمي الصغير في قرية متواضعة بحجم قمحة.. لسبب ما اقتنعت منذ أمد طويل أنها قد تكون المكان المناسب والضروري الذي أعبر فيه عن إنسانيتي بشكل أفضل وألمس حاضري بطريقة نورانية.. القرية اسمها (بارك فيل) قرية صغيرة تنام بدلال كل ليلة على مرتفعات ( كانسس) تحتضن نهر الميسوري بأمان وتغطي صدرها بعباءة من البنفسج والورد والياسمين.. هذه القرية عبارة عن بقعة صغيرة معلقة بين شعاع الشمس وتراب الأرض تمتزج بالجمال وعبق التاريخ.. ابتعت منزلا قديما بنافذة بحجم سماء تطل على حديقة مثالية تغير رئتيك تمنحك هواء منعشا ورقيقا كما لو أن حريرا مس وجهك.. على طرف المنزل كان هناك شجرة عتيقة غاية في الجمال والأناقة الإبداعية.. كانت تنتصب أمام بوابة البيت كراحتين مفتوحتين مرحبة بالضيف والمقيم.. كنت أغني لهذه الشجرة أغنية عبد الوهاب ( أحب أشوفك كل يوم يرتاح فؤادي) أغنية قديمة وأنا مازلت دقة قديمة في السمع ومع الأيام أصبحت تلك الشجرة العتيقة تنمو وتنمو فتحني أغصانها على جزء من سطح المنزل الخشبي.. كنت أستدعي من وقت لآخر أحد العمال لتقليمها مقابل بضعة دولارات وتحولت الشجرة مع الأيام إلى غابة تظلل المدخل.. ومع الوقت انتهى ذلك البهاء الممتد علي ولم تعد تلك الشجرة التي تنظر إلى السماء عطري اليومي الذي يستدير في قفل الباب.. تحولت لشجرة بطعم الأسى أثناء الخريف ترقص بعنف وترشح دون اكتراث وفي الشتاء تصبح أغصانها باردة جليدية متكلسة مقوسة كمناقير دامية لا تلبث أن تهوى وتنفرط وتتناثر كقنبلة طرية.. ودون تخطيط مسبق، واندفاعا وراء غامض في داخلي ربما هو التعبير عن العشوائية التي تجتاح اختياراتنا أحيانا قررت إزالة الشجرة.. هاتفت شركة مختصة.. قالوا لي هل لديك تصريح بإزالتها ؟؟ قلت لهم الشجرة في أرضي وأنا أملكها.. قالوا لي أنت تملك الأرض ولكن لا تملك حق إزالة الشجرة وتقليل المسطحات الخضراء في المنطقة عليك بمراجعة المختص.. ذهبت للمختص الذي بادرني بالسؤال هل هي شجرة صحيحة أم مريضة.. أجبته وكأنني وجدت فرجا.. مريضة.. أجابني إن كانت مريضة فأنت أكثر الناس معرفة يادكتور بأن المرضى الحقيقيين لا يقتلون بل يتداوون !! قلت له أفترض أنني لم أعالجها واقتلعتها قال لي بوسعك أن تقتلعها إن شئت لكنك ستذهب للسجن.. من يقطع شجرة عاطل عن الأمل.. الحياة تحتاج إلى قليل من الحجر وكثير من الخضرة ولاشيء يساوي إحساسك بالخضرة كالخضرة نفسها... وتركت الرجل وأنا أحمل مشاعر مختلفة.. حز في نفسي كيف يجاهد القانون والبشر هناك على الحفاظ على الشجر وفي وطني العربي الفسيح تسحق البشر وتتراقص الأرواح والأجساد بدمائها كل يوم بعد أن تخترقها الطلقات وتخرج الصيحات عبثا.. أما آن لهذا الدمار والرقص أن يتوقف !!.