-A +A
علي حسن التواتي
لطالما كانت طوابير الإنجليز مدنية أو عسكرية مبعثا لإعجاب كافة الشعوب الأخرى منذ أمد بعيد. ولكن الغريب أن معظم الشعوب المعجبة وفي مقدمتها النامية لا تحاول تقليد الإنجليز فيما تراه من انضباطهم في الطوابير والتزامهم بأدوارهم في تحقيق الأغراض التي ينتظمون في الطوابير من أجل تحقيقها أو الحصول عليها سواء كبرت تلك الأغراض أو صغرت، وطال زمن بلوغها أو قصر. وحتى إن حاولت تلك الشعوب التقليد فما تلبث أن تتراجع لأسباب كثيرة تحتاج إلى بحث علمي دقيق يشمل التربية والتعليم وظروف النشأة في البيت ونوعية السلطة المهيمنة ومدى عمق التمايز الاجتماعي الطبقي الذي يتخطى الطوابير إلى كافة القوانين والأعراف وكافة مناحي الحياة دون رادع أو وازع من خلق أو ضمير.
ولعل الزائر لمدينة الضباب على فترات متباعدة يلاحظ في كل زيارة تغيرا قد يكون صغيرا أو جوهريا طرأ عليها. ففي زيارتي الأولى سنة 1979م كان واضحا للوهلة الأولى أن جل سكان المدينة من الإنجليز الذين طالما كونوا انطباعا لدى الشعوب الأخرى ببرودهم ومنهجيتهم في التفكير والأفعال وردود الأفعال.. وفي الزيارة الثانية لاحظت أن بلدية لندن قامت بكتابة عبارة «انظر يمين وانظر يسار» بخط أبيض كبير على الإسفلت عند التقاطعات وإشارات المرور لتنبيه المشاة لاختلاف نظام السير عنه في البلاد الأخرى. وهذا التنبيه موجه بالطبع للأجانب الذين بدأت أعدادهم بالتزايد وكان البعض منهم يتعرض للدهس نتيجة تعوده على النظر في اتجاه لا بد أن ينظر عكسه تماما في لندن. ولعل نقطة نظام السير البريطاني بالذات تحتاج إلى تعليق لطرافتها ولأن كثيرين يجهلون سببها حتى من بعض الإنجليز الذين اعتادوا عليها دون تفكير بالفلسفة التي قامت عليها. ففي العصور القديمة حينما كانت الخيول وسيلة المواصلات في المدن كان الفارس يعبر الشارع من الجانب الأيسر بحيث لا يترك بينه وبين الجدار مسافة كبيرة حتى يتمكن من حصر مصادر الخطر وامتشاق سيفه بسرعة باليد اليمنى المستخدمة غالبا في القتال مع الاحتماء بالجدار في مواجهة الشارع حتى لا يؤخذ على حين غرة من الخلف. وتتوالى الزيارات ومعها التغيرات، ففي زيارة لاحقة كانت إقامتي بالصدفة في فندق يقع قرب تقاطع شارع أكسفورد الشهير مع شارع إجوار الذي تحول إلى قرية عربية في وسط لندن بمحاله التجارية ومقاهي الشيشة المنتشرة على جانبيه ولوحاته الإعلانية وكل ما فيه. واللافت هنا ملاحظة بعض الوجوه الخليجية الملتزمة بالقبوع في تلك المقاهي ليل نهار وذلك ما يدعو للتساؤل عن سبب مجيئهم أصلا إلى تلك المدينة الباهظة التكاليف، فطالما كانت المسألة مسألة قهوة وشيشة فما الداعي للمجيء إلى لندن ولبس بدلة كاملة في جو صيفي خانق لمجرد الجلوس على ناصية الطريق.

أما في آخر زياراتي منذ عدة أيام فقد لاحظت أن المشهد أصبح مختلفا تماما، فقد تزايدت أعداد الوجوه الآسيوية والأفريقية السمراء الناطقة بلكنة إنجليزية أصلية (لغة الأم) بشكل لافت، فقد كبر أبناء المهاجرين وأصبحوا بريطانيين واستولوا على معظم تجارة التجزئة والخدمات، أما الشوارع فقد اكتظت بالعربان من كل مكان بأزيائهم الوطنية المعروفة حد أنني كنت أسهو في بعض الأحيان عن هوية المدينة وأظن أنني في الأحمدي أو السيدة زينب.
ولا تجد بلدية لندن ولا المواطنين الإنجليز غضاضة في هذا التواجد المربح للجاليات الأجنبية في عاصمتهم بل على العكس من ذلك تقوم البلدية بتقديم كافة التسهيلات لهم وينفتح الإنجليز عليهم كما لم ينفتحوا في تاريخهم فتجد الترحيب والتجاوز عن الأخطاء، كما تجد التسهيلات للاحتفال بالمناسبات الدينية والوطنية وحتى في التظاهر لصالح محمد مرسي في أحد أزقة إجوار..
ورغم ذلك لم ينس الإنجليز الانضباط في طوابيرهم لتجد مواقف الباصات المكتظة وقد زودت بكاميرات وكتبت فوقها لوحات تحذيرية بأن الالتزام بالطوابير قيد المراقبة. وحتى من يرغبون في المعاملة الخاصة (VIP) في بعض طوابير المزارات السياحية المكتظة لم يحرمهم الإنجليز من إشباع رغباتهم فبإمكانهم تجاوز الطوابير الطويلة بنظامية تامة وذلك بشراء تذاكر خاصة مسبقة الدفع بسعر أعلى من التذاكر العادية ليحظوا بالأولوية التي يرغبون لتوفير وقت الانتظار أو حتى لمجرد إشباع الرغبة بالتميز. ورغم كل هذا تجد من يتجاوز الطوابير من حين لآخر فقد بدأت ثقافات شعوب العالم الثالث تفعل فعلها في كل مناحي الحياة في لندن وغيرها من المدن الإنجليزية الكبرى.