-A +A
علي حسن التواتي
تتردد مفردة الشمولية coherency بكثرة على ألسنة المسؤولين في مختلف المجالات العامة والخاصة. وحتى على المستوى الأكاديمي يختلف مفهوم الشمولية في الفلسفة والاقتصاد عنه في الفيزياء والرياضيات. ولا بأس في الاختلاف طالما كان استخدام المفردة بعيدا عن رسم السياسات التنموية العامة وتصميم مشاريع النفع العام. ففي مثل هذه الحالات على وجه التحديد لا بد من تحديد مفهوم الشمولية بشكل واضح لا يختلف عليه اثنان. ورغم أن الاتفاق على مثل هذا المفهوم صعب للغاية في الدول المتقدمة بسبب التنوع في التوجهات السياسية وما يترتب عليها من تحالفات ومساومات ومتطلبات انتخابية، إلا أنه أقل صعوبة في الدول النامية والناشئة التي مازالت تحكم حكما مركزيا. ورغم ذلك نجد أن الجهود تبذل إلى أقصى حد ممكن في الدول الديموقراطية المتقدمة لتحديد مداخل ومفاهيم شمولية السياسات من أجل التنمية policy coherence for development (PCD) والشمولية هنا تعني إيجاد التناغم بين الغايات والأهداف والنماذج والبروتوكولات في السياسات أو البرامج التي تعتمدها الحكومات لدعم التنمية.
ويتطلب مدخل الشمولية الاهتمام بقياس تأثير السياسة أو البرنامج أو المشروع التنموي قبل وأثناء وبعد تنفيذه وذلك بتتبع الرابط بين المراحل في سلسلة النتائج المتوقعة بدئا بالمدخلات فالمخرجات والتقدم نحو النتائج والتأثير النهائي.
ومع الاعتراف بصعوبة تحليل هذه الروابط والتعرف عليها بدقة إلا أن ما يزيد الأمر سوء يكمن في الاستجابة لضغوط عامل الوقت وتوظيف الخبرات غير المناسبة والنقص في التحليل.
وعلى المستوى التنظيمي فإن الجهات الرئيسية المنوط بها رسم السياسات وتنفيذ المشاريع العامة في الدول التي لا تعتمد التخطيط المركزي هي التي تقوم بكافة التنسيقات والترتيبات اللازمة لضمان شمولية التخطيط والتنفيذ السليم للمشاريع المدرجة تحتها. ولنأخذ مثالا حيا من قطاع المواصلات فعندما استصدر الرئيس الأمريكي (دوايت أيزنهاور) تشريعا بتقديم المساعدات الفدرالية لمشروع الطرق المحورية السريعة (هاي واي) والذي عرف بمسمى (مشروع أيزنهاور للدفاع والطرق السريعة عبر الولايات المتحدة) كان ضمن المشروع استخدام مهم كما يبدو من عنوانه وهو الاستخدام العسكري للطرقات. وهذا الاستخدام لم يقحم في التشريع اعتباطا أو محاباة من الرئيس ذي الخلفية العسكرية للمؤسسة التي جاء منها، ولكنه كان تتويجا لمخطط مدروس على مدى سنوات طويلة بدأتها مديرية الطرق العامة الفدرالية منذ 1916م ولم تتردد لإنجازها في التنسيق مع كافة الجهات المدنية والعسكرية ذات العلاقة وأخص منها الجيش الأمريكي الذي قدم سنة 1922م قائمة بالطرق التي يعتبرها ضرورية لمتطلبات الأمن القومي والتي تصل أطوالها إلى (200) ألف ميل وعرفت تاريخيا بـ (خارطة بيرشينج) على اسم الجنرال جون بيرشينج الذي قدمها. وبهذا يكون الجنرال أيزنهاور قد صادق على تسريع جهود بدأت منذ ما لا يقل عن 40 عاما قبله، ليستغرق تنفيذ المشروع الرئيسي 35 عاما بأطوال وصلت إلى (47,182) ميلا سنة 2010م ومازال المشروع مستمرا وكل من يأتي حتى الآن يكمله ويضيف إليه، ولم يقترح أحد تغيير اسم الرئيس أيزنهاور الذي يحمله بل إن الجميع يفخرون بالمشروع الذي يعتبر ثاني أطول شبكة طرق برية منفذة في العالم بعد الصينية، ويعتبره الأمريكان أكبر مشروع عام في التاريخ بعد الأهرامات.
ولذلك أعتقد أن لوزارة التخطيط والاقتصاد الوطني في بلادنا دورا لطالما كان غائبا في التحقق من شمولية السياسات والبرامج والمشاريع التنموية العامة. وكمثال للتدليل على ما أقول من نفس المجال نجد أن الجهات العسكرية في بلادنا تضطر إلى تنفيذ طرقها البرية بنفسها لعدم وجود خارطة طرق دفاعية معتمدة ضمن شبكة طرق برية عامة والشركات التي تنفذ مشاريع القطارات كالتي تنفذ قطار الحرمين تضطر لهدم جسور وكباري كلفت عشرات المليارات من الريالات لتعيد بناءها مرة أخرى بعشرات المليارات أيضا، وفي المدن الكبرى مثل الرياض وجدة نجد كباري لا تقود إلى شيء ويسميها الناس (الكباري الميتة ؟) ومشاريع أنفاق وكباري لتسريع الحركة بين اتجاهين دون اهتمام بتأثير افتتاحها على الحركة في الاتجاهين الآخرين.
ومع تقديري لكافة الوزارات والهيئات الحكومية المجتهدة في تخطيط وتصميم المشروعات العامة إلا أنه يمكن بسهولة ملاحظة الفردية وانعدام الشمولية في كل ما تصممه وتنفذه. ورغم ذلك لا يستطيع أحد لومها فيما تفعل ذلك أن الجهة المركزية التي يفترض بها التأكد من سلامة وشمولية التخطيط والتنفيذ والمتابعة للسياسات والبرامج والمشروعات التنموية غافلة عن دورها أو أنها لا تقوم به على الوجه المطلوب.

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 130 مسافة ثم الرسالة


Altawati@gmail.com