-A +A
فؤاد مصطفى عزب
لا أخشى الموت.. أخشى أن لا أجد عبد المحسن آخر... هذه العبارة قالها العملاق محمد صادق دياب الذي عاش كمنارة مضيئة ومات كرنين نور.. عزف كما الفجر ومات كما الفجر.. قالها بصوت هده الداء في مواجهة قنوعة راضية فذة مع الموت لعبد المحسن الحليت وهو يساعده للوصول إلى الحمام ويلبسه حذاءه!! ولمن لا يعرف عبد المحسن الحليت من القراء هو شاعر نبيل في زمن الخنوع والخذلان وهو رجل من معدن فريد في زمن أشباه الرجال.. فرس يرفض اللجام وشاعر يكتب كلمات تشبه الورد عندما يغتسل بالضوء والمطر وهو من قال عن المرحوم محمد صادق دياب:
كيف أرثيك ياصديقي حيا ** وعلى الشعر سدت الأبواب
كل يوم يمر يكبر جـرحي ** فحـراب تمضي وتأتي حراب
فالفوانيـس لافتـائل فـيـها ** والمـواويـل مالها زريـاب
كيف ياصاحبي وأنت أمامي ** يحضر الشعر والطريق ضباب
ربـع قـرن والحـب يبدأ منـا ** فـكلانا في حبــه عــراب
فإذا مـت فالـكلام معـاق ** لاحـروف لـه ولا إعـراب
وإذا وجهك الحزين توارى ** عن عيوني فكل عين «دياب»
فوداعا أبا البنات وداعا ** أنا لا أنت من عليه الذهـاب
أنت في مجلس العزاء تعزى ** أنت من عنده يطول المصاب
أنت حي فوق التراب معافى ** وأنا من عليه يحثى التراب.
وهذا الإنسان المضيء كالنهار هو من كان يحضر لمحمد معجون أسنانه وماكنة حلاقته..
أذكر يوما رفض محمد الخروج في زمهرير لندن لتناول جلسة العلاج الكيميائي قال وعلى شفته ابتسامة ساخرة (قد تمط هذه الجرعة في عمري بضعة أشهر بلا طعم لا أريدها) أجابه عبدالمحسن في همس يشبه النحيب (ومستكثر علي كم شهر يابو غنوة) وبكى الاثنان وبكيت معهما وحمل عبدالمحسن ملابس محمد وكل مستلزمات الحمام بهدوء مفرط.. كان عبد المحسن عكاز محمد وكرسيه المتحرك وغطاءه وكوب مشروبه الدافئ ومنشفته الرطبة التي تعيد له مزاجه الحلو وحلق محمد بخفة طائر إلى جنة مملوءة بالجوز والرمان تاركا لنا محطة من أجمل محطات العمر لايمكن نسيانها مطلقا وظل عبد المحسن بيننا قصيدة وفاء وصورة رائعة للصداقة القيمة العليا وليست الأمر العابر في الحياة.. علمنا أن الرجولة لا تستوي مع الكذب وأن الصدق أهم صفات الرجل..
علمنا هذا الإنسان الجدير بالحب أن برد الحياة لايزداد وطأة حين لايتوفر الغطاء بل عندما نفتقد حرارة حضن الصديق..
علمنا هذا النموذج الذي تتضاءل إلى جانبه كل النماذج أن زمن الخسارة الحقيقي والخراب ليس عندما تفقد الحياة بل عندما يسقط الأصدقاء متخلين عن المبادئ مخلفين في القلب حسرة تضاف إلى الفواجع التي عصفت بالأحلام والوعود..
علمنا هذا الكريم في القول والفعل والذي لايتلفظ أبدا بقول جارح أن الصديق الذي يحبك حتى بجروحك يرمرمك يغسل همومك ويحرس أيامك ويلف خيوطه حولك ويغمرك بالدفء كشمس بحجم قلب وأن من لديه صديق مثله لن يعاني من برد المفاصل أبدا ولن يخونه الدفء بل ويخاصمه الأرق وأن الخل الوفي ليس مستحيلا بل هو حقيقة ناعمة الملمس والعبير.
Fouad.azab@hotmail.com

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة