-A +A
فؤاد مصطفى عزب
الصيف الماضي ذهبت في نزهة إلى (عالم دزني) في إيرلندو مع عائلتي وأحفادي.. عالم يجعلك تستيقظ كل يوم من سريرك وتبتسم مثل رضيع شبعان.. هنا ألف يد تصفق وألف لسان يصفر وهو يتألق فرحا حيث تنهمر العين في جداول النورانيات.. كان الجميع يمرح ويلعب (ففي داخل كل إنسان أصيل طفل يريد أن يلعب).. في طريق العودة كانت الأمطار تضرب زجاج السيارة.. واستمرت تهطل دون توقف.. كنت أقود العربة من المطار على مهل حتى وصلنا إلى المنزل لتستقبلني مفاجأة لم أكن معدا لها.. فما أن وضعت قدمي في الطابق الأرضي حتى امتلأ حذائي بالماء.. بنطلوني تبلل حتى حدود الركبة.. ارتبكت.. سرت رعدة في جسمي وانحدر ببطء تاج ناري فوق رأسي.. أخذت أحصي خسائري التي حدثت.. كان المنظر مثيرا للأعصاب.. الماء يكاد يكون دمر جزئيا الطابق الأرضي بأكمله.. ولكن كيف كان ذلك ممكنا!! في منتهى البساطة فاض نهر الميسوري خرج يتنزه بعد شتاء ثلجي طويل في حديقة منزلي وأغرته النزهة فمد قدميه مبتلعا الطابق الأرضي.. كان اليوم الأحد العطلة الأسبوعية هنا.. من أين سآتي بفريق عمل ليساعدني في هذه الكارثة.. سأنتظر الغد أول الأسبوع.. جلست قبالة التلفزيون في الدور الأول مقبض القلب أداوم على كبس الأزرار متنقلا بين القنوات الإخبارية.. لاشيء، أمور مكررة.. أستمر في البحث أقرأ الشريط الإخباري.. أسفل الشاشة (إعصار يضرب قرية جبلن)، فما أن قرأت الخبر حتى بدأت أتابع الأخبار على القناة المحلية كأنني وضعت رأسي فجأة داخل خلية نحل كل كلمة يقولها المذيع تلسعني.. من أين تتدفق هذه الذكريات.. في أوقات قديمة كنت أزور عائلة تقيم في تلك القرية.. كانت قرية فيها الخير يزهو كان للفلاح فيها رزق.. كان فيها زرع وضرع ومياه وحياة ومصابيح تسيل ضوءا على الطرقات.. فجأة أقفرت القرية من أهلها وجفت البهجة منها.. لم تعد تسمع سوى أقدام أناس يحنون رؤوسهم للقبور ونباح كلاب يرتفع في الفضاء كالصفير.. ذهبت القرية كلها ذهبت ولم تعد وما بقي هناك سوى أسماء لشوارع ودروب.. مقاصف القرية توارت وهوت الجدران وانهارت المنازل.. ثمة أناس يقفون أمام بيوتهم لايستر أجسادهم سوى قميص.. أقفر الروض ومات الزهر.. كان ذلك حادثا مروعا مرعبا تحدثت عنه جميع المحطات الفضائية وزار الرئيس أوباما القرية في لمسة إنسانية لمشاركة أهالي المفقودين آلامهم.. أسقطت رعشة الدمار والموت الذي كان ينفث الشرار في كل أنحاء القرية الغضب وشعور الفقد عني تماما.. كنت طافحا بالحزن وبالإثم والندم معا.. انجلى غبار الغرق بين اللحظتين وكأن الله جعلني أشاهد أحداث قرية (جبلن) ليضمد جروح الفقد في روحي.. شيء ما تغير في ذلك الكون الذي أعيشه.. شيء عنيف يضيء الذي غرق بعيدا عني في الظلام.. أحسست بشعور حارق بالألم دفع بدموع خرساء إلى عيني.. استيقظت على مفارقة قيمة الفقد.. لقد فقدت الفتات بينما فقدت قرية كاملة أكثر من مائة روح.. أخذت في الاستغفار وإعداد النفس لوضع القاطرة على القضبان.. عاد لي نوع فريد من الارتباط بالله.. حاولت أن أصرف عني مافقدته، أدرت ظهري لكل شيء حتى ما جمعته من مشاعر أليمة وحزينة ورددت (الحمد الله) كلمتي السحرية أقولها عندما تهدأ نفسي وإذا رددتها هدأت نفسي، ينتظم شيء ما في علاقتي بالوجود أعرف حدودي فأشعر بعطايا اللحظة الفريدة التي لا تتكرر!!.
Fouad.azab@hotmail.com

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة