-A +A
فؤاد مصطفى عزب
هذه القصة تحبس اللحظة داخل شباكها الذهبية.. ترتدي درع العدل (النيوني) كأنها كريستال كامل ورفيع.. حقيقة من حقائق فردوس الأرض اقتطفتها لكم من مسار الشمس فهي منيرة كالنار في الظلام وتفيض بالإنسانية وتومض بها مثل طير في بستان مقيم.. مشرقة كغيمة ناصعة.. من القصص التي تذبحك تحت الضلع الأيسر قرأتها في (النت) فتدفق عسلها حلوا كريق نبات في كل اتجاه.. فردت ذراعي لأمسك بها لتكون بين يديكم هذا الأسبوع.. جرت هذه القصة في (نيويورك) عندما كان قاضٍ يدعى (لاجارديا) وكان قاضيا نزيها واضحا عادلا متواضعا عصيا على الوصف، إنه قاضٍ مستيقظ وسط عالم نائم.. نقي تحس أن نفحة من الزهور البيضاء تطوف حوله.. مغمور بالدفء يطلق ابتسامته لكل شخص بثقة.. ابتسامات تحمل كل المعاني.. يتنفس باطمئنان.. شجاع مثل نسر قوي وذكي عقله وقاد مثل شمعة مشتعلة.. في صباح رمادي وقف أمامه كهل يجلس أسفل أيامه.. رجل فقير ممن يربضون في حفر وزوايا نيويورك.. من أولئك الفقراء حتى سابع ظهر ممن يحتاجون إلى حشد من عربات الأرزاق لتنمية مواردهم الشحيحة.. كان مكتئبا ومتوترا ومختنقا عشر رئات لا تكفيه ليتنفس.. أشعث نحيلا كأنه يرتدي هيكله العظمي خارج جلده.. تقدم من القاضي كقوس هرم كان يمشي إلى ذعره من دون أن يستغيث بأمل مثلوم.. سأله القاضي ما الذي أتى بك إلي؟، فأجابه من خلال دموعه ورعبه المكتوم: كنت أضع حجرا تحت رأسي ذات ليلة وكل حلمي رغيف خبز.. لم يهتم بي أحد حتى سرقت ذاك الرغيف فألقوا القبض علي !!، واستطرد: جرحي لا يعرفه إلا الله أنا من جياع نيويورك الذين يسقطون نحو القاع ( لاتعلم ياسيدي كم من الأيام وضعت رأسي على ركبتي وبطني وبكيت !!) وكطبل أسطوري وبحماسة كبش أجابه القاضي أنت إذن تعترف أنك سارق وأنا لذلك أعاقبك بغرامة (10) دولارات لقاء السرقة وقيمة الخبز وساد المحكمة صمت مليء بالدهشة قطعه القاضي بأن أخرج من جيبه (10) دولارات أودعها في خزينة المحكمة ثم التفت للحاضرين وفتح فمه.. تحدث بلا تردد كانت الكلمات تتسارع من فمه بدفء وببساطة ورقة وانفعال ونعومة وصدق وبوضوح ومرارة وألم.. كان يتحدث إليهم دون تلعثم وبلا انقطاع.. قال لهم قفوا إنه من المستحيل أن أتحدث إليكم عن هذه المأساة مالم تقفوا.. أليس غريبا مع كل هذا العدد الهائل من الأثرياء في نيويورك أن يكون هناك بشر لهم كل هذا الحزن !! أليس من العار أن نصحب كلابنا كل يوم للنزهة ولاننثر فتات الخبز لفقرائنا !! ما أنتن الرجولة حين تنفرد بالأنانية !!.
ما أقذر الثراء حين يكون مجده صرخات الفقراء !! لقد تحولنا إلى آلات ميتة !! عار عليكم أن يسقط بينكم فقراء ولا تنحنون !! ثم نزع القاضي قبعته الطويلة السوداء وأعطاها لأحد المسؤولين في المحكمة وقال للحضور ضعوا نقودا كافية في هذه القبعة لعلكم تبصرون الفاجعة التي ارتكبتها أيديكم واطلبوا من الله الغفران.. وبعد أن امتلأت القبعة بالنقود والتي دفعها الحضور عن طيب خاطر اقترب القاضي من العجوز ثم ربت على كتف خوفه وهمس في أذنيه: من النذالة أن يتخاذل المرء أمام ضحيته، تقبل مني هذا المبلغ وتقبل مني اعتذاري عن المجتمع والدولة وبصوت خافت تمتم المسن دعني أقبل شجاعتك !!.
Fouad.azab@hotmail.com

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة