-A +A
فؤاد مصطفى عزب
جمعت أجزائي من فوق السحاب ونزلت بعد تحليق على الأرض مؤقتا كي أكتب لكم هذه القصة الغاية في الروعة .. لا أجد ما يصف حالتي .. لا أعرف لماذا ترتجف يدي قبل كتابة هذه القصة !!، لماذا أخاف من مواجهتي لهذه الورقة اليوم ترى هل أخشى أن أكتب ما لا يليق بمستوى صاحبة القصة أم أن الورقة والقلم لا يمكنهما اختصار حياتها .. أشعر بأشعة دافئة تخرج من جسدي وبأشعة أكثر دفئا تصلني من اللا مكان .. حالة من الاحترام المطلق التي أستغرب لها حقا تتلبسني وحالة من القداسية كتلك التي أشعر بها في مكان مهيب تضغط على قلبي بشدة وتشد على يدي وأنا أكتب هذه القصة .. ثمة خصوصية في كل شيء يتعلق بصاحبة القصة .. حديثها .. شكلها .. تجربتها .. حتى اسمها .. صاحبة القصة عندما تحدثك تشعر أنها تتنفس هواء حرا يتخللك يسري فيك من أخمص قدميك وحتى مفرق رأسك .. يغسلك .. يدثرك .. يزملك .. تشعر وهي تتحدث إليك أن خيطا رفيعا يربط بينك وبين روحها وأن جناحين ينبتان تحت ذراعيك !!، لا يمكن وأنت تستمع إليها أن تفكر في أي شيء أو أن تتذكر أي شيء فقط لا تملك إلا أن تركز حواسك على هذه اللحظة .. لحظة تتحدث هي فيها إليك !!، أما شكلها فهي كلوحة «الجيوكندا»، حيث تجعل من يشاهدها يشعر أنها تنظر إليه أيا كانت زاوية نظرة الناظر إليها، لذا من الصعب أن يصدق من ينظر إلى عينيها أنها «كفيفة» .. تخيل أنك لا ترى من هو أمامك !!، تخيل كم من المعاناة ستلاحق خطواتك وكم من الهموم ستعود معك وأنت تقفل راجعا نحو مخبأ اطمئنانك !!، هل تفر إلى جزيرة بعيدة خاصة .. هل تنطوي على نفسك !!، هل تنكفئ على ذاتك !!، هل تغلق الأبواب في وجوه الناس !!، ما الذي تفعله طفلة خطف المرض الضوء من عينيها مثل ضربة نيزك قديمة .. تقول الدكتورة «وحي فاروق لقمان»، وهذا اسمها إنني أعدت صياغة حلمي الذي قهره المرض وجعلت لوحشتي جمالا خاصا وتمسكت بضوء لا مرئي رجوت الله فيه أن يساعدني إلى ما لا نهاية لأحقق أهدافي والله لا ينسى من فضله أحدا !!، تقول أنا أعرف الأشكال والألوان فالله كان كريما معي، حيث لم أفقد كامل بصري تماما إلا في الثالثة عشرة من العمر .. كنت أول حفيدة من جهة الأب وجهة الأم، لذلك عشت طفولة مدللة .. تتذكر الماضي البعيد والقريب، تقول تعلمت لغة «برايل» باللغة العربية والإنجليزية .. تعلمتها فقط من باب حب الاستطلاع لكن دراستي وقراءتي كانت مباشرة سخر لي الله من يقرأ لي .. كنت تلميذة تستعجل الوصول إلى سبورة قلوب الآخرين .. رزقني الله بامرأة صارت تصب الضوء في كفي كل يوم وتمحو عني ارتباك النهار .. قامتها لا تتجاوز كتفي، لكنها غلفت روحي بغلالة من حرير وردي .. تستطرد وكأنها تلف أحلامها في ورق بلون السماء وشريط من النجوم وتتركه بجوارنا وهي تتحدث .. تقول درست الابتدائية والمتوسطة في مدرسة أهلية بجدة ثم عند انتقالي للمرحلة الثانوية استدعتني إدارة المدرسة لتعلمني وبالأسود الفصيح بأن الأنظمة لا تسمح لفاقدي البصر بالانتظام، وأن علي أن أقوم بالانخراط في نظام «المنازل»، كان نهارا حالك القسوة .. تضفي على القصة نكهة مشبعة بفكاهة الحياة تعيدك لعناوين الجرح وتربط خيوط الكلام .. تقول لم أكن أبالي بتمرد دموعي المالحة التي يشرق بها حلقي فلم يكن معي منديل !!، ورضخت للأمر على مضض إلا أنني أصبت بلوثة التعلم والقدرة الفائقة على تحقيق المستحيل والسطوة الغامضة على تذليل الصعاب .. وأنهيت الفصل الأول وفوجئت بطلب آخر .. مقابلة عضوات لجنة تربوية .. قلت أكيد «يا وحي»، إن يدك ارتعشت وخرجت الخطوط معرجة وقبيحة ضممت كفي لقلبي واستعنت بخالقي ودخلت عليهم .. كانت المفاجأة أنني أحرزت المركز الأول، تقول للزمان عطايا سخية .. أذهلتهم إجابتي .. صعقهم أدائي الدراسي ونباهتي، قررت مديرة المدرسة وبعد إقناع اللجنة بأن أسجل كطالبة منتظمة في الفصل الدراسي الثاني .. كانت المفاجأة لهم أنني رفضت طلبهم كنت متنمرة وعنيدة أضرب الأرض بقدمي وأرفع يدي للسماء، وكانت السماء دائما كريمة معي .. في أحد الأيام استدعاني أبي .. ذلك الأب العظيم الذي لم يبخل بروحه في تدثير أيامي ليقنعني بأن أكمل دراستي في بريطانيا «دراسة المرحلة ما قبل الجامعية»، ورفضت، فالمكان الذي ولدت وعشت فيه الخروج منه هو فقدان للذاكرة !!، تقول مررت بمواقف حياتية صعبة كان الكثير منها صادما ومؤثرا، حيث كنت في مرحلة عمرية لم أكن أفهم فيها لماذا وكيف ومتى !!، لكن مع الوقت بدأت أتفهم تصرف الناس حيث كنت أتعرض لسماع الكثير من التعليقات والأسئلة «هل أنت عمياء»، طبعا لم يكونوا يعلمون غير ذلك لأنني لا أستخدم الأدوات المساعدة التي يستخدمها من لديهم مثل إعاقتي البصرية النظارة السوداء والعصاء البيضاء .. وتلك حقيقة فعندما تنظر إلى عيون «وحي» المخضبة بشجن الحياة لا يساورك الشك إطلاقا أنها سيدة «عمياء» تكمل ترحل الذاكرة عبر الزمن مثل رحيل الطيور الأسطورية، تقول صرت أحمي نفسي من ألم عرفته وأحمي من حولي من ألم لا يعرفونه، الكل يراني من بعيد وأنا لا أرى أحدا، كنت فما يبتسم من بعيد هكذا كنت ولا زلت دائما أجيد الابتسامة .. أجيدها بمهارة، تقول بهدوء مطمئن لا أدري كم من الأبواب فتحت داخلي لفرح ينتظر أن يعربد وأنا أقف لمناقشة رسالة الدكتوراة والتي كان موضوعها «مقارنة بين القانون العربي والبريطاني»، وحيث إنه من المتعارف عليه أن الباحث أو مقدم الرسالة عليه أن يقرأ أولا افتتاحية بحثه أمام اللجنة الممتحنة ثم تبدأ المناقشة لاحقا .. اختار بعض أساتذتي شخصا ليقرأ بدلا عني المقدمة قبل بدء المناقشة .. إلا أنني وكالعادة رفضت ذلك الاقتراح، كنت صخرة لا يمكن اقتلاعها من دون جروح في التراب وأصررت أن أقوم بالقراءة من الذاكرة وتم ذلك واستعرضت بحثي أمام 3000 ثلاثة آلاف مدعو، وقد غطت الصحف آنذاك الحدث وأشارت أنه ولأول مرة تمتلئ تلك القاعة بذلك العدد .. يقال إنه في يوم من الأيام قرر جميع أهل القرية أن يصلوا صلاة الاستسقاء .. تجمعوا جميعهم للصلاة لكن أحدهم كان يحمل «مظلة»، تلك هي الثقة بالله «وحي فاروق لقمان رئيسة قسم القانون في كلية دار الحكمة بجدة»، لم تكن تختلف عن ذلك الرجل في ثقتها بالله لذلك انتشر الياسمين من حولها أينما حلت وأورقت الأشجار في ضلوعها برغم العطش !!.

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 132 مسافة ثم الرسالة