-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أحب القصص الإنسانية .. أحبها مثلما يحب جامع الطوابع طوابعه كلها .. كل حكاية .. كل حادثة .. يشدني دائما في القصة ماهو أبعد من الكلمات .. المعنى .. والذي كم هي الحياة مظلمة بدونه .. هذه القصة شاهدتها على قناة الـ «أي بي سي» .. قال مقدم البرنامج إنه يستضيف رجلا قصته غير قابلة للتكرار وأنها ليست هي بالقصة قدر ماهي تجربة حقيقية استثنائية .. كان الرجل وهو يروي تجربته دافئا كضوء مصباح خجول .. هادئا إلى درجة الألم خافتا إلى درجة الأسى وصافيا إلى درجة التعب .. كان كطائر جريح يدخل غرفتك بهدوء تتألم لرؤيته لكن لاتجرؤ على الاقتراب منه خشية أن تؤذيه ويبقى في أرجاء الغرفة دون ضجة ومع الوقت تحتل روحه المكان وبعد أن يتوارى عن نظرك لا تنس وجوده .. لا زالت ملامحه تنتصب أمامي فقد فتنني بكمية مشاعره الحقيقية وهو يتكلم .. انتابني ذهول غريب وأنا أتابعه .. كنت أقول يالها من دنيا «عفنة» كنت أحتاج شيئا هائلا يؤكد لي أنني أستمع إلى رجل حقيقي من لحم ودم وليس رجلا فولاذيا .. انخطاف غريب جعلني أتسمر أمام الشاشة .. أتابع ذلك الكائن وهو يروي تجربته غير المألوفة وغير العادية وكيف أن أحماض الحياة لم تزله ولم تحطمه أثقالها ولم يطمره ترابها، بدأ حديثه بتجربته الرديئة مع الزمان .. قال كنت أراقبه كيف كان يسرق الناس الأعزاء عندي ثم يفر بلا أثر .. الزمان سرق أمي قبل أبي وتركني يتيما .. لم أكن يتيما فقط بل وأعيش مع زوجة أبي التي تكرهني كراهية سوداء .. كانت سيدة قاسية لا تعرف الرحمة أو الشفقة .. كانت أنانية لا تحب أحدا ولكنها بما كانت تفعله بي جعلتني دون وعي منها أحب الله .. أحببت ربي بشغف لأنه الوحيد القادر على تخفيف حدة الألم الذي كنت أتلقاه منها .. كان هذا هو انتمائي الأول والذي كبرت عليه والذي أعانني على الوقوف على قدمي وترميم الفجوات المظلمة والمنهكة في روحي ولكي أعيش .. تتداخل ذكريات الرجل، يضغط على زر الذكرى يحكي كالبحر تستطعم ملوحة حديثه يقول وضعتني يوما في الطائرة .. أرسلتني في رحاب الهالكين .. أعطتني عنونا مجهولا و25 دولارا .. قالت لي ستذهب لهذا العنوان وستجد فيه من يعتني بك أنا لا أرغب بعد اليوم أن تبقى معي .. كان كلامها على باب الطائرة كغرغرة ميت .. حالما هبطت الطائرة أستقليت حافلة تتجه للعنوان المكتوب لدي .. حالما توقفت الحافلة عرفت مافعلته تلك المرأة الرصاصة المحشوة بالغدر بي .. كان العنوان لأحد مطاعم «ماكدونلد» وقفت أمام المبنى في ظهري كانت «هيروشيما» وفي وجهي كانت «هيروشيما» كنت لم أبلغ سن الرشد بعد لكن غيوم حرائق ذلك اليوم جعلتني أبلغه!! كنت أنظر إلى الوراء بغضب فما حدث لي كان بشعا .. كان حجم دهشتي باتساع الأرض وكان حجم خوفي باتساع السماء .. عدت إلى وعي وإلى حقيقة طال هروبي منها .. حقيقة كاوية تنص على أنني طفل لا أحد له .. توقف أمامي شرطي سألني ماذا تفعل خارج البيت في هذا الوقت المتأخر؟؟ أجبته وأنا أطاطئ رأسي لأنه لا بيت لي ياسيدي!! كان الشرطي رفيقا طيبا في تلك الليلة التعيسة كان فانوسي الوحيد في تلك الليلة .. يقول تتطلب منا الحياة أحيانا أن نتخذ اختيارات وقرارات لابد منها .. خبرني الشرطي في تلك الليلة أن التحق بدار رعاية الأيتام أو أن أبقى لديه في المخفر وحتى يجد لي حلا قانونيا في اليوم التالي .. كان الخيار الأول يتناسب وما أنا فيه فأنا فعلا يتيم وتلك حقيقة لاشك فيها فأنا أحمل أقداما لا بيت لها ومفاتيح لا أبواب لها .. وانتهى بي المطاف في دار الأيتام .. عاهدت نفسي حالما ولجت ذلك المبنى أن أتعلم كيف أتكي على مساميري وأن أنهض كل صباح لأتعلم وأن لاشيء سيهزمني ولا شخص سيكسرني ولا موقف سيقتلني بعد اليوم .. كانت أطنان الهموم والمشاكل والأحزان تتكاثف مع الأيام إلا أنني كنت أعاند العذاب وأفتح الأبواب للشمس لم يكن لدي وقت لأحزن أو لأبكي .. وخضت تجارب النار كلها خضتها كمحارب .. كان حملي ثقيلا وزادي قليلا وجرحي كبيرا لكنني حققت المستحيل أنهيت الثانوية وبامتياز وكنت الأول على المنطقة وحصلت على منحة دراسية من جامعة «هارفرد» .. وصرت أعمل ليلا وأتلقى تعليمي نهارا وتخرجت بتفوق وعملت محاضرا وأكملت تعليمي حتى أصبحت أحد المميزين في تخصصي .. يقول كنت أعبر فوق المواقف الصعبة والظروف المرة لأنه كان لدي إيمان كامل بأن الله كان يعد لي أوقاتا أجمل وحياة أفضل وكما تبرق قطعة من الألماس الأصيل من بين أكوام التراب تبسم بحزن لمقدم البرنامج قائلا له الحياة صعبة ولو لم تكن كذلك لما خرجنا من بطون أمهاتنا نبكي .. حكاية من الحكايات التي توجعك وتدميك لكنها تؤكد لك حقائق جميلة وهي أنه مهما كانت الحياة مليئة بالتعاسة فهناك دائما مساحة للإيمان والذي يجعل من الإنسان عاصفة وأن الله يهب الطيور غذاءها لكن لا بد أن تطير حتى تصل إليها وأن الإنسان إن أصابه هم فعليه أن لا يقول يارب إن همي كبير بل ليقل ياهم إن ربي كبير .. قصة أهديها للواقفين في طابور الشاكين والمتذمرين ولعل الشراع يفيق.
Fouad.azab@hotmail.com

للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة