-A +A
إعداد : محمد علي الحربي 7
كان الفيصل "يرحمه الله" واضحاً وصادقاً وحازماً في كل القضايا الاسلامية والعربية التي تبناها ودعمها.. موقفه من القضية الفلسطينية وموقفه من الخلاف المصري اليمني, ومن استقلال سوريا ولبنان, ومن استقلال الجزائر, وجلاء الاستعمار البريطاني عن الخليج وغيرها الكثير من المواقف الكبيرة التي كان للفيصل فيها دور بارز أعاد الحقوق لأهلها وجمع الدول الاسلامية تحت مظلة التضامن الاسلامي.. كان الفيصل صادقاً ومخلصاً ومؤمنا بأهمية تحقيق التقدم والرقي والمنعة لشعبه, وكانت سياسته الداخلية تنطلق من نفسه النهج الايماني الراسخ, والفكر التقدمي الذي يسابق الزمن. قدم الفيصل "يرحمه الله" الكثير لبلاده قبل أن يصبح ملكاً وقبل أن يصبح وليا للعهد وقبلها مما عرضنا له في الحلقات السابقة. وقد قضى الفيصل "يرحمه الله" احد عشر عاماً ولياً للعهد مع أخيه الملك سعود "يرحمه الله" كان فيها نائباً لرئيس الوزراء, ووزيراً للخارجية, او رئيسا لمجلس الوزراء في بعض تلك السنوات وقد كان للفيصل دور بارز في معالجة الازمة المالية التي بدأت تظهر في البلاد بعد عام 1376هـ (1956م), اذ تجاوزت المصروفات حدود الامكانات المالية للايرادات, وتفاقمت الديون, ولم يعد الريال مقبولاً في الأسواق التجارية الاجنبية, برغم تصاعد موارد البترول فوضع الفيصل حلولاً لتلك الأزمة. يقول بنوا ميشان: "وفي أقل من ثلاث سنوات, نجح فيصل في تصحيح الوضع المالي, ثم أعاد الى ميزان المدفوعات توازنه, والى الريال قوته الحقيقية, ووضع حداً للتبذير والاسراف, وكافح استغلال النفوذ, والمحاباة, وخفض المخصصات, ودعم سلطات الملك, ونفوذ الحكومة, وظهرت على الفور ادارة جديدة في ظلها, صلبت الارادة, واستؤنفت المشروعات الكبيرة, وازدهرت التجارة, وعادت منحنيات الاحصاء الى اتجاهاتها التصاعدية".
كما قدم الأمير فيصل "آنذاك" برنامج الاصلاح الداخلي في جمادى الآخرة 1382هـ (نوفمبر 1962م) في شكل بيان وزاري تضمن خطة الحكم ومنهج الاصلاح بمناسبة تشكيل وزارة جديدة برئاسته اسماها بعضهم وزارة الاصلاح وتضمنت عشر نقاط:
أولاً: العمل على إصدار نظام أساسي للحكم, مستمد من الشريعة الغراء, وقد حدد العناصر الأساسية التي كان سيتضمنها هذا النظام المأمول.
ثانيًا: اصدار نظام للمقاطعات, يوضح طريقة الحكم المحلي للمناطق.
ثالثًا: العمل على إصدار نظام يضمن استقلال القضاء وحصانته, مع إنشاء مجلس أعلى للقضاء, ووزارة للعدل, ونيابة عامة, للضرب على أيدي الظالمين والدفاع عن المظلومين.
رابعًا: تأسيس مجلس للإفتاء, يضم نخبة من خيرة الفقهاء والعلماء.
خامسًا: تقرير واجب المملكة في الدعوة لنشر الإسلام, والدفاع عنه قولاً وعملاً.
سادسًا: إصلاح أوضاع هيئات الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, بما يتمشى مع الأهداف السامية للدعوة والإرشاد.
سابعًا: النهوض بالمستوى الاجتماعي للأمة, وتكفّل الدولة بالعلاج والتعليم وإعانات الاستهلاك, وتوفير الضمان الاجتماعي, وإحداث نظام للعمال, وألا تطغى الدولة على الحريات الفردية والحقوق, مع توفير وسائل التسلية للمواطنين.
ثامنًا: العمل على إصدار مجموعة من الإنظمة, لتنظيم النشاط الاقتصادي, بما يتفق مع الشريعة الخالدة.
تاسعًا: وضع برامج إصلاحية لإنعاش الحركة الاقتصادية, كالطرق والمياه والزراعة والسدود والصناعة والمرافق العامة واستثمار المعادن.
عاشرًا: تحرير الرقيق وإلغاء الرق, إلغاء مطلقًا.
تحول عميق
قضى الملك فيصل "يرحمه الله" احد عشر عاما ولياً للعهد, وقضى مثلها ملكاً على البلاد, اذ بويع يوم الاثنين 1384/6/27هـ (1964/11/2م) ملكا على المملكة العربية السعودية.
كان عمره آنذاك ثمانية وخمسين عاماً.. لكن فكره وايمانه ورؤيته لمستقبل بلاده كانت جميعها فتية تتقد حماساً.
يقول بنوا ميشان: "لقد حدث تحول عميق في داخل ذاته, ان هذا الذي كان يظن ان قواه قد خارت, وان المرض قد غلب عليه, لم يلبث ان صلب عوده, واسترد نشاطه, الا انه بقي متلفعاً برداء كرامة الحاكم ووقاره, كما أن مناداته بملك, لم تكن صيغة بروتوكولية, بل تعبير عن واقع.
وقد لوحظ في اعماقه ظهور قوة جديدة, اخذ يواجه بها في نشاط متزايد, كل المعضلات الصعبة التي تطرح امامه, ولقد قال احد المقربين: كأن الله قد أجل تسنّمه لسدة العرش, ليتيح الفرصة اللازمة له لكسب التجربة الضرورية".
إنجازات الفيصل
لقد كان الفيصل "الملك" على موعد مع مواجهة تحديات كثيرة وكبيرة ليتمكن من تطوير بلاده وفق رؤيته المتقدمة والخاصة مراعياً فيها خصوصية المجتمع المحافظ.
وقد شهدت البلاد في عهده قفزات كمية ونوعية يضيق المجال عن حصرها, ومنها:
- وضع النظام الأساسي للمملكة.
- نظام المقاطعات.
- انشاء وزارة للعدل.
- انشاء مجلس للقضاء الأعلى.
- انشاء هيئة لكبار العلماء.
- انشاء وزارة للاعلام.
- انشاء التلفزيون.
- صدور نظام الجامعات.
- افتتاح جامعات وكليات ومعاهد عسكرية وفنية ومتخصصة, وكان للفيصل دور خاص في انشاء جامعة الملك عبدالعزيز الأهلية قبل ان تتحول الى حكومية.
- افتتاح عدد كبير من المدارس, وافتتاح مدارس للبنات.
- انشاء المجلس الاعلى للتخطيط.
- اقرار الخطط التنموية الخمسية.
- انشاء العديد من برامج التنمية الاجتماعية من أبرزها, انشاء مراكز التنمية والخدمة الاجتماعية, والتأهيل والرعاية والاندية, والجمعيات الخيرية والتعاونية, والضمان الاجتماعي والتأمينات وغيرها.
- توسعة الحرمين الشريفين, والمشاعر المقدسة.
- تأسيس وزارة الحج.
- انشاء المؤسسة العامة للبترول والمعادن.
- اكتشاف حقول نفطية جديدة.
- استكمال شركات الكهرباء المحلية في معظم المناطق.
- تحلية المياه.
- انشاء البنك الزراعي.
- انشاء المؤسسة العامة للكهرباء.
- انشاء مصلحة الاشغال العامة.
- انشاء عدد من بنوك التسليف وصناديق الاقراض.
- انشاء ثلاث مؤسسات عامة مستقلة, الخطوط الجوية السعودية والموانئ, وسكك الحديد.
- رئاسة الطيران المدني.
- انشاء المستشفيات التخصصية.
وغيرها من الانجازات التي لا يتسع المجال لحصرها والتطور الذي حققته كل منها.
وكان لبعض هذه القرارات التي اتخذها الفيصل أبعاداً خاصة شكلت تحدياً له في حينه مثل قراره الشجاع بالغاء الرق, وقرار تعليم الفتاة, وانشاء التلفزيون, مما شكلت تحدياً خاصاً لطبيعة المجتمع السعودي المحافظ الذي لم يتقبلها في بداية الأمر, ولكن سرعان ما استشعر بعد نظر الفيصل, حتى أصبح المواطن السعودي لا غنى له عنها الآن.
إلغاء الرق
وعن القرار الشجاع الذي اتخذه الملك فيصل "يرحمه الله" بإلغاء الرق, يقول الأمير خالد الفيصل:"لا شك انه كان من أهم القرارات ومن أجرأ الخطوات التي اتخذت في ذلك الوقت. يعني كان قراراً جريئاً ومهما بالنسبة لمجتمع المملكة العربية السعودية, لانه كان كثير من الناس يتاجرون بالرق بطريقة غير شرعية, وكانت مؤذية لسماحة الدين, وكانت مؤذية للانسانية. كان كثيرون منهم يمسكون ويقبضون على بعض صغار السن من افريقيا وجنوب الجزيرة العربية, ويأتون بهم بطريقة السرقة, ثم يبيعونهم في الاسواق, على أساس أنهم ارقاء, وقد اكتشف في تلك الاثناء حالات كثيرة لاناس بيعوا, وهم ليسوا بأرقاء, وانما أبناء أسر, وقد تعرفوا الى اسرهم واهلهم, وكانت هذه المسألة -في الحقيقة- تعاب على هذا المجتمع, وتعاب على هذه الأمة, فكانت جرأة الملك فيصل في أن يتخذ القرار ويلغي الرق جرأة كبيرة وموقفاً كسب التأييد داخلياً وخارجياً".
تعليم الفتاة
ومن التحديات الكبيرة التي واجهها الملك فيصل "يرحمه الله" وقوبل برفض المجتمع لها, الا انه لم يلن ولم تهن عزيمته, وأصر على موقفه فيه حتى اقتنع الجميع بقراره وتوجهاته في تعليم الفتاة السعودية وفتح مدارس البنات, وعن ذلك يقول الأمير خالد الفيصل: لا شك أن موقف الملك فيصل بالنسبة لتعليم الفتاة معروف عند الجميع كان موقفاً صلباً وموقفاً حازماً, وموقفاً حاسماً.
في كثير من الأحيان كان يخالف توقعات الناس ويتخذ مواقف فيها بعض الغرابة, ولو كان رأي الأغلبية ضده, ولكن في الأخير تعدل الأغلبية رأيها وتسير معه وتتبع نهجه وهذا من القرارات الكبيرة التي اعترض عليها الكثير من الناس الذين عادوا بعد عام فقط من افتتاح المدارس وطالبوا بفتح المزيد من المدارس, وما من شك في أن الملك فيصل "رحمه الله" له فضل كبير في تعليم الفتاة في المملكة, بل الفضل الاول, وما نشهده الآن من انطلاقة تعليمية في مجال تعليم الفتاة يدعوا الفخر والاعتزاز, وأنا متأكد لو رأى الملك فيصل اليوم ما وصلت اليه الفتاة لكان قرير العين.
3 استدلالات
وعن هذه القرارات الحازمة والاستثنائية للملك فيصل "يرحمه الله" يقول الدكتور عبدالرحمن الصالح الشبيلي عضو مجلس الشورى: "يكفي للحديث عن التطور الكمي والكيفي للتعليم والقوى البشرية في عهد الملك فيصل الاستدلال بثلاثة أمور:
- الاول: انه وقف بحزم, كما هو معروف, في سبيل ادخال تعليم المرأة رسمياً عام 1380هـ (1960م), وقال قولته المعروفة: "إن الدولة ستفتتح مدارس لتعليم الفتاة, لكنها لن تجبر أحداً على ذلك" ولم تمض مدة قصيرة على قرار الحكومة بانشاء تلك المدارس حتى تضاعفت اعدادها بشكل غير متوقع. ولعل ذلك هو القرار الاستثنائي الاول, الذي اتخذه الفيصل بحزم, من دون مراعاة لاسلوبه المعتاد في التدرج وربما كان قراره بالغاء الرق, هو القرار المشابه الثاني, الا انه روعي في رئاسدة مدارس البنات, ومبانيها ومناهجها والاشراف عليها, كل الشروط التي تنسجم مع ظروف المجتمع, وتحقق له الطمأنينة والثقة, وتكفل لها الاستمرار من دون عقبات او ملاحظات, وكان "رحمه الله" قد شجع بعض أفراد اسرته, على افتتاح مدارس للبنات مثل دار الحنان, ودار التربية الحديثة بجدة, وذلك قبل انشاء المدارس الحكومية.
- الثاني: ان التعليم العام في المملكة, بمراحله الثلاث كافة وصل في عهد الفيصل الى نواحي المملكة كافة, سهولها وجبالها, قاصيها ودانيها, باديتها وحاضرتها, قراها وهجرها, وبشكل سبق الكهرباء, والطرق, والاتصالات, وشهدت المناطق النائية والتجمعات الصغيرة توافر المدارس الجاهزة والمتنقلة, فبدلاً من ان تجبر تلك التجمعات السكانية على تغيير مواقعها, انتقلت وسائل التعليم اليها ومعها, حيثما ارتحلت, وقد بلغ الأمر بوزارة المعارف في بعض السنوات, انها كانت تفتح مدرسة واحدة للبنين في كل يوم.
- الثالث: ان المملكة, في مرحلة حكم الملك سعود والملك فيصل شهدت انشاء خمس من الجامعات السبع, وعدد من الكليات, والمعاهد العسكرية, والفنية, والمتخصصة, وكان للفيصل دور خاص في انشاء جامعة الملك عبدالعزيز الأهلية قبل ان تتحول الى جامعة حكومية. هذا من الناحية الكمية, اما من الناحية النوعية, فلقد صدرت وثيقة "سياسة التعليم في المملكة" وصدر نظام الجامعات, وتنظيمات لبدء الدراسات العليا والبحوث في الجامعات, والقضاء على الأمية في المملكة, والتوسع في البعثات والملحقيات الثقافية, حتى ان مخصصات التعليم في ميزانية الدولة بلغت في عام 1384هـ (بداية حكم الملك فيصل) والاعوام اللاحقة زهاء 13% من اجمالي ميزانية الدولة.
إنجازات إعلامية
ومن أهم الانجازات الاعلامية التي تمت في عهد الملك فيصل "يرحمه الله" وشكلت بالنسبة له تحدياً كبيرا تمكن من تحقيقها والوقوف بحزم وراءها واحدثت فارقاً في مسيرة المملكة:
1- افتتاح الاذاعة في مكة المكرمة وان كان ذلك في عهد الملك عبدالعزيز, عندما كان الفيصل نائب الملك في الحجاز, في 1368/9/23هـ وبدأت ارسالها في مطلع عام 1369هـ
2- انشاء وزارة للاعلام عام 1382هـ (1962م).
3- تحويل صحافة الافراد اليومية الى صحافة مؤسسات أهلية في 1383/8/24هـ (1964/1/13م).
4- انشاء التلفزيون عام 1382هـ (1962م).
وقد قال الملك فيصل "يرحمه الله" في احدى خطبه بمناسبة افتتاح مرسلات الموجة المتوسطة لاذاعة الرياض عام 1387هـ (1967م): "اننا في مشروعاتنا الاعلامية, لا نهدف لان تكون وسيلة لنشر المديح او الثناء او الاطراء للحكومة, او المسؤولين, او أي فرد في هذه البلاد, انما نريدها لنشر الفضيلة, والحق وتوعية المواطنين, والمقيمين, الى ما فيه خير دينهم ودنياهم, وهذا ما نهدف اليه وما يؤكده واقعنا, ونحن سائرون في سبيل الله, معتمدون عليه في تأكيد الدعوة الى الله, والى الحق والسلام والمحبة".
السياسة الداخلية
وعن السياسة الداخلية للملك فيصل "يرحمه الله" يقول بنوا ميشان في كتابه "فيصل الحاكم" ان سياسة فيصل الداخلية, متشعبة المحاور, متعددة الاتجاهات, فهو في الوقت الذي يتمسك فيه بالعقيدة وبالنافع من عادات البلاد وتقاليدها مظهراً ومخبراً, فانه كان يقود بلاده بخطى حثيثة الى التطوير.
لقد كان "الملك التقدمي, وسط شعب محافظ" كان يرى ان تطوير عقول الرجال والمجتمع قد تحتاج الى اجيال عديدة, فالتقاليد والعادات والافكار المسبقة صلبة جداً, تشكل دروعاً يصعب تجاوزرها". ويضيف بنوا ميشان :"لطالما اتهم الملك فيصل بالرجعية, وهذا خطأ تماماً فالعكس هو الصحيح, انه متقدم كثيرا وسط شعبه المتمسك معظمه بعاداته القديمة, ان فيصل لا يكف عن دفعه الى الامام لقد كانت مهمة التجديد صعبة مع الحفاظ على فلسفة اخلاقية ثابتة, تلك التي تنبع من القرآن الخالد أبداً".
ثم يختم بنوا ميشان, حديثه عن السياسة الداخلية للفيصل بقوله: لقد كانت سنوات حكم الفيصل فترة نجاح وانتصارات فلقد حققت الجزيرة العربية تحت قيادته قفزة خصبة الى الامام لقد كانت البلاد في بداية توحيدها تحتاج الى اسبوع كامل لحمل نبأ من ساحل المملكة الى ساحل آخر, اما في عهده, فلقد كان في وسع الفيصل ان يتوجه يومياً بالطائرة او الراديو, او التلفزيون, بصورة مباشرة الى كل واحد من رعاياه.
لم يكن الفيصل يرضى بالواقع, فلقد كان عليه ان يصنع الاداة لممارسة الادارة, وان يجمع من حوله طرازاً جديداً من الرجال, لان عهده كان يمثل في تاريخ الجزيرة العربية, النقلة الى عصر المديرين الذين تم اعدادهم على الطراز الحديث, ولذلك ادخل تعديلاً على بنية الادارة, وحدد واجبات كل وزارة وصفاتها وجعل المشرفين عليها مسؤولين امامه, وجعل نفسه مسؤولاً امام شعبه, واحل عدداً من الدوائر التقنية, محل تلك التي كانت قليلة الفائدة من قبل, وبفضل هذه الادارة الجديدة, المتمتعة بالمرونة, والفعالية, استطاع ان يركز جهوده الانمائية".
في الحلقة القادمة


الفيصل .. كيف أجرى عملية جراحية بدون بنج؟