-A +A
أريج الجهني
متى كانت آخر مرة زرت فيها مسقط رأسك؟ سواء قريتك أو الحي القديم؟ وما المسكن الذي يستحضره خيالك حينما تترنم على رائعة محمد عبده «الأماكن كلها مشتاقة لك»؟، الشوارع والأحياء والمدرسة والمسجد كل هذه التفاصيل التي تسكن في وجدان المرء ولا تغادره حتى إن غادرها، تحمل لنا الوفاء رغم رحيلنا، وهكذا يعيش الإنسان السعودي في مسبار الرحيل، البداوة ليست صفة هي أسلوب حياة داخلي يسكننا مهما تحضرنا، ومهما استطالت أو تلونت أبنيتنا، فنحن نعيش لنرحل، ولعل هذا الرحيل أزف الوقت لأن يهدأ، ولعل عقارب الزمن تعاتبنا لنعيد التأمل في فكرة «السكن» ومتلازمة التغيير.

الذي جعلني أعيد النظر في كل ما سبق هو مبادرة وزارة الإسكان التي انطلقت تحت شعار «دعم تجديد المساكن»، وهي تهدف لمساعدة المواطنين لتجديد مساكنهم بدعم مالي من قيمة الدعم الإجمالي للقرض الأساسي، وذلك حسب نوع الوحدات السكنية، وتشمل المباني التي تجاوز عمر بنائها ١٥ عاما، وهذا في الواقع تحول نوعي وثقافي متقدم، بحيث يستطيع المواطن البقاء في حارته التي يحب دون أن يضطر للانتقال للأحياء الجديدة، فالكثير من الدراسات التي تناولت أسباب انتقال السعوديين من مساكنهم أشارت إلى أن الرغبة الأولى للانتقال كانت بهدف التجديد، فالبعض يفضل أن ينتقل عن أن يعيد تجديد مسكنه إما لارتفاع التكلفة أو لضعف الخدمات في بعض الأحياء التي تتقادم مع الزمن، بجانب التحولات المجتمعية المختلفة.


إذا وزارة الإسكان الآن لا تدعم الجانب السكاني «حفظ التركيبة السكانية» وملامح الأحياء من التغيير فقط، بل هي تصافح الثقافة وتصنع تاريخا ثقافيا جديدا، بحيث لو استجاب الناس بالفعل للمبادرة وقاموا بتنشيط وتجديد مساكنهم وأحيائهم سيكون هناك إنجاز نوعي ممتد يحسب للقائمين على المشروع، فالكثير من الأسر تود الاحتفاظ بالجيرة الطيبة والمسجد القريب والمدرسة الجيدة، لكن تراكم مسؤوليات ومصاريف الصيانة والتجديد تجعلهم في دوامة اقتصادية بل حتى اجتماعية، فالكثير أصبحوا ينتقلون للقرب من أسرهم ونحو ذلك.

الأحياء هي الوحدات المصغرة من المدن والمكون الأول لها، ولكل حي بصمته الخاصة، فالحفاظ على المساكن وتجديدها يخدم هوية الحي ويلبي رغبة قاطنيه في البقاء ومقاومة شغف التنقل والترحال، التغيير الحضاري الذي نعيشه اليوم يعيد هيكلة وجه المجتمع سنرى هوية جديدة في الأيام القادمة للأحياء والمدن، المهم أن يكون هناك سعي حقيقي من وزارة الشؤون البلدية والقروية في التكاتف مع وزارة الإسكان في تحقيق مفهوم «أنسنة المدن»، وتفعيل فكرة «السنتر أو وسط المدينة القابل للسير على الأقدام دون استخدام السيارات داخل الأحياء».

بكل حال، وفرة المنتجات التي تطرحها الوزارة حاليا جديرة بالتقدير، والتنوع في الخدمات هو ما يحتاجه المواطن اليوم، التحدي الحقيقي دائما يكمن في الاختيار وحسن القرار، ولعل العبارة الشهيرة التي قالها معالي الوزير ماجد الحقيل «أزمة السكن أزمة فكر» في عام ٢٠١٥ اتضحت دقتها ومصداقيتها في معالم إنجازات الوزارة في زمن قياسي، نعم إعمال الفكر والتعاطي الواقعي مع المستفيدين والقرب من احتياجاتهم هو الاختبار الحقيقي لكل مسؤول، فالمجتمع لدينا مليء بالطاقات الشابة التي تتطلع لمنتجات عديدة ومناسبة لاحتياجاتهم، بعيدا عن نظريات المالتوسية «الانفجار السكاني» وبلاكر وغيره من المفسرين للتغير السكاني، مهم أن يكون لدينا بصمتنا السكانية الخاصة ورؤيتنا الثقافية التي تجعل المساكن وجهة «الأماكن» ومعقل الحنين.

* كاتبة سعودية

areejaljahani@gmail.com