-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أزار نفيس الكاتبة الايرانية، صاحبة (أن تقرأ لوليتا في طهران)، كتبت في مدونة نيويورك تايم: كنت كلما استعرت كتاباً من المكتبة المحلية في واشنطن.. أجد في مواجهتي ملصقاً يقول إن (الآخر الكبير يراقبك)، كنت أتساءل إذا كان غيري يتمهلون أمام إيحاء هذه الكلمات الثلاث؟ وما إذا كانوا يفهمون كيف أن العيش في ظل الرقابة يشوه المجتمع؟ فالرقابة تحول منظورك، وأخلاقك، وعلاقاتك بأصدقائك وزملائك، وطلبتك.. ومع كل نادل تقابله أو سائق تاكسي، بل إنها تبدل علاقتك بذاتك، وتكمل الكاتبة: عندما كنت أعيش في (طهران) كنت أدون يومياتي بلغة سرية.. لا أستطيع الآن فك شفرتها، وكنت لكي أكتب عن أقاربي وأصدقائي القابعين في السجون أضطر إلى صوغهم في قوالب روائية، جاعلا من نفسي شخصية مثلهم.. لقد أنشأت أمي شفرة تفصيلية للتهرب من الرقباء أثناء الحديث عبر الهاتف، كانت تقول في مكالمة بالفارسية: إن (السيد مريض)، قاصدة في ذلك أن الأمور لا تسير في صالح النظام، ثم تهمس في قلق (فاهمة.. فاهمة)، دخلت الرقابة عقولنا وقلوبنا مبكراً، أضيف الحجاب إلى الرسومات في كتب الأطفال، وتطور الأمر للدرجة التي صارت ابنة صديقتي التي تبلغ من العمر ثمانية أعوام، تخشى دخول الحمام وحدها، بعد أن قالت لها معلمة التربية الدينية إنه لو مرت بذهنها في الحمام أفكار فسوف تتحول كل شعرة في رأسها إلى ثعبان! المشاهد الغرامية في الروايات تحذف بقسوة، وكلمة (نبيذ) تحذف من قصص همنجواي، كان الرقباء يرفضون أن يكون الأشرار في السينما ملتحين، وأي مشهد لزوج وزوجة في غرفة النوم هو إثم كبير، كان الحنان مخاطرة! لقد كان السبب الحقيقي للرقابة الحكومية هو الخوف، (خوف الدولة من المواطنين)، الحكومات التي تتجسس على شعوبها تريد أن تحصل على المعلومات التي تمكنها من السيطرة لا فقط على أعدائها، بل وعلى الجميع بالاشتباه في الجميع طول الوقت، فكل ما يبدأ بوصفه فعلا سياسيا سرعان ما ينفذ إلى جميع مناحي الحياة، لا يستثني أحدا يصبح العدو الزميل الغريب، أو الجار الجديد الذي يتكلم لغة أجنبية، أو الثلاثة الذين يتهامسون في المترو.. يصبح في كل حقيبة قنبلة، وفي كل سؤال فخ، وكل الأماكن التي ترتاح إليها يعوزها الأمان ومع الأيام يلازمك الخوف «يتخندق»، «يتخندق» تحت جلدك. حتى بعد أن تهرب، وتكون على بعد آلاف الأميال والسنين، تظل تشعر أن عيناً تراقبك، وشيئا ما بداخلك أصابه تلف دائم، بسبب معرفتك الرهيبة بقدرة البشر على القسوة، وبضعفك أنت في مواجهة هذه القسوة. عندما جئت إلى أمريكا هرباً من جحيم الحكومة في (طهران)، ظللت لوقت طويل في حالة جدل، أسبح في بحر حريتي في أن أقول ما أشاء.. ولمن أشاء.. ولكن الجدل لا يدوم طويلاً، لا في العالم الحقيقي ولا الخيالي.. والخوف الذي حسبت أنني تركته وراء ظهري حينما هاجرت، عاد فلحق بي، ولئن كان العنف والمراقبة ضد المواطنين في (إيران) يتسمان بالعنف والسفور، فالأمر هنا مختلف، مختلف كليا.. إذ إننا هنا مهددون باللامبالاة، هنا أخشى سلطان الجهل، جهل الإنسان بثقافته، وتاريخه، وثقافات الغير، وتاريخهم، أنا لا أخشى محنة الحرية هنا، بل أخشى اللحظة التي أكف فيها عن النظر إلى الحرية باعتبارها محنة.. (انتهى كلام أزار نفيس). ما أقسى الأوطان عندما تتحول إلى سجن، يمجد الجهل والإحباط.. ويجعل كل الطرق مسورة، ما أقسى الأوطان عندما تتحول إلى حيطان خرساء تراك تبكي ولا تأخذك بين ذراعيها رغم التصاقك بها، ما أقسى الأوطان التي تكره الحالمين والأحرار، ما أقسى أن تسكن وطنا تسكنه ولا يسكنك، أصبحت (إيران) وطن الإحساس بالظلم والقهر والمهانة والتفرقة.. وكبت الحريات وتكميم الأفواه. يرحل الإيراني عمدا.. ولكن إلى أين؟ عندما يرحل الكائن يموت الذي كان قبل الرحيل ويولد غيره، ذلك وحده يكفي لكي يرحل.. لئلا يكف عن الرحيل!

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com