جنود أتراك يقفون على جماجم وبقايا جثث أرمن.
جنود أتراك يقفون على جماجم وبقايا جثث أرمن.






إعدام الأرمن بتهمة التجسس لصالح الروس في بداية 1915.
إعدام الأرمن بتهمة التجسس لصالح الروس في بداية 1915.






أعداد من الأرمن خلال رحلتهم الأخيرة إلى «مسيرات الموت».
أعداد من الأرمن خلال رحلتهم الأخيرة إلى «مسيرات الموت».






نساء ورجال أرمن في انتظار المصير المجهول.
نساء ورجال أرمن في انتظار المصير المجهول.






غلاف كتاب «مسيرات الموت.. مذكرات إحدى الناجيات».
غلاف كتاب «مسيرات الموت.. مذكرات إحدى الناجيات».
-A +A
أسماء بوزيان (باريس) emmaaska2@
لم يستطع الدارسون والباحثون في مأساة «مذبحة الأرمن» الحصول على معلومات من الإدارة التركية، خصوصا الأرشيف التاريخي للإدارة العثمانية، للتعرف على عدد الرجال والنساء والأطفال الذين قُتلوا بين عامي 1915 و1916. فالأرقام التي ذكرتها المصادر التركية تشير إلى إبادة 800 ألف ضحية، بينما ذكرت مصادر في الأرشيف الأوروبي، أن 1.5 مليون أرمني قتلوا خلال هذه المذبحة، وهو نفس العدد الذي يتحدث عنه الأرمن ووثقته شهادات دبلوماسيين عملوا في تركيا في ذلك العهد وتقارير منشورة من قبل بعثات أممية يومها، وهي التقارير التي تتطابق مع شهادات الناجين الذين فروا نحو أوروبا.

أطماع السلطان أردوغان


في 2015 استخدم ولأول مرة بابا الفاتيكان علنا مصطلح «الإبادة الجماعية» للتنديد بمذبحة الأرمن التي ارتكبت قبل قرن من الزمان، ما أثار غضب السلطات التركية آنذاك. وكانت مذكرات سيربوهي نقطة تحول في الاعتراف بالإبادة التي ارتكبها العثمانيون ضد الأرمن. وفي نهاية 2018 وبداية 2019 تحرك الإعلام الأوروبي بوسائله الفضائية والورقية للحديث عن المذبحة التاريخية. وتكررت تصريحات المسؤولين الأوروبين بضرورة اعتراف الأتراك بمذابحهم ضد الأرمن، ما أثار غضب رئيس النظام رجب طيب أردوغان، وتوعد أوروبا وفرنسا تحديدا بكشف مجازرها أمام الشعوب.

هذه الندية، فسرها المختصون بأن طموح أردوغان وقبضته الحديدية على الحريات سببها الأطماع التي لا تزال تراود «السلطان» بلبس عباءة الإمبراطور، وأن على الرأي الدولي أن يعيد الرجل لحجمه الطبيعي كي لا يدوم حلمه كثيرا.

وهنا يقول المؤرخ ميكائيل نيشاني، المتخصص في تاريخ الشعب الأرمني: كانت كل الأعراق والشعوب المختلفة الموجودة على الأراضي التركية تعيش في سلام. لكن في أواخر القرن الـ19، بدأت الإمبراطورية العثمانية في الانهيار وخسرت معظم ممتلكاتها في أوروبا. وسعى العثمانيون إلى البحث عن عدو من الداخل، فتحول الأرمن إلى شعب خائن لا يؤتمن. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، اتخذ الاستياء من الأرمن منعطفا أكثر خطورة، وتحول الأرمن إلى العدو اللدود للأتراك، وتحركت ضدهم آلة الإعدام.

المذكرات.. نقطة تحول

كانت مذكرات سيربوهي بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، ولم يكن كتاب آني رومو، وحدها من سرد مجازر الأرمن، ولكن الكثير من الناجين من المجزرة سردوا حياتهم ووقائع الإبادة.

آني رومو الممثلة الفرنسية حفيدة الناجية الأرمنية، سردت تفاصيل مذكرات جدتها في شريط وثائقي للقناة الفرنسية الثالثة، إلا أن المذكرات شدت انتباه الرأي العام، فعادت للظهور بداية 2019 في القنوات التلفزيونية على شكل وثائقي خاص بإحدى الناجيات من مسيرة الموت. وكتبت الممثلة الفرنسية من أصول أرمنية آني رومو عن ذكريات الأرمن من خلال مذكرات جدتها التي عثرت عليها في 2014، وصدر للممثلة كتابان الأول: بعنوان «حذاء الحرير» الصادر عن دار النشر ميشال يو مول، والثاني: بعنوان «جدتي الأرمنية»عن منشورات ألكوك عام 2015، وهي مذكرات حملت تفاصيل غائبة في «مسيرات الموت» التي قادها الجيش التركي ضد الشعب الأرمني.

تعود سيربوهي في مذكراتها إلى مرحلة هروبها مع خالتها، فبعد أن تمكنت من الوصول إلى كيراسو في 25 أكتوبر، وجدتا ملاذاً في قرية مجاورة وحاولتا البقاء على قيد الحياة مقابل عمل في الخياطة.

وبعد شهر من هروبهما تعقبهما الجنود الأتراك وألقوا القبض عليهما ليتم نقلهما ضمن قافلة جديدة إلى آجن (الآن كيماليا)، ولكن هذه المرة فصل الجنود الحراس الأرمن الكاثوليك عن الأرثوذكس.

وفي تلك الأثناء، فرت مرة أخرى سيربوهي مع أسيرة أخرى في جنح الظلام، وقطعتا مسافة كبيرة في السير في الصباح، واصلتا طريقهما إلى منزل قديم. وعلى الرغم من مخاوفهما من محاولة تتبع أثرهما، إلا أنهما تمكنتا من الوصول إلى شواطئ البحر الأسود. وصلت سيربوهي رفقة الأسيرة الثانية إلى كراسون (الآن غيرسون) في 25 أكتوبر 1915.

من سيربوهي إلى ماري

غيرت سيربوهي اسمها إلى «ماري» وادعت أنها كاثوليكية الديانة، وتم استقبالها من قبل أعيان المدينة، وانتقلت إلى عائلة يونانية في فبراير 1916 التي خبأتهما عن الأنظار. وفي نوفمبر 1916، مع زيادة الضغط من القوات الروسية، أصبح اليونانيون هدفا لهجمات الصحافة التركية.

وفي ديسمبر 1916، بدأت عمليات الترحيل، وبدأت معها عمليات الابتزاز والاغتصاب والنهب. ولم يعد المكان آمنا لسيربوهي.

ففي سبتمبر 1917، قام بحار تركي بتهريبها إلى القسطنطينية، كانت عمليات الإعدام تتم في الخفاء، لأن البعثات الدبلوماسية، كانت ترسل بتقاريرها إلى بلدانها حول عمليات التطهير العرقي بحق الأرمن. وهكذا اشتدت الحرب وبقيت سيربوهي تبحث عن ملجأ لها من بطش الجنود الأتراك الذين كانوا ينتهجون عمليات الإبادة المعلنة ضد الأرمن. ولم تجد سوى أن تستغل أوزار الحرب للهروب من جحيم الجنود العثمانيين.

على جبهة القوقاز، توقفت الثورة الروسية عام 1917 عن الاقتتال، وتسبب استيلاء لينين على السلطة والتوقيع على «السلام المخزي» في 3 مايو 1918 في انسحاب القوات الروسية.

هذا التحول في منطق الحرب، دفع إلى استسلام الإمبراطورية العثمانية في 30 أكتوبر 1918 في مودرس.

سيربوهي التي كانت تبلغ من العمر 25 عاما، قضي على جميع أفراد عائلتها في مشروع الإبادة الجماعية للشباب الأتراك، أما هي فقد نجت من مسيرات الموت والجوع والعنف، لكنها فقدت زوجها وابنتها عايدة، ولا تعلم شيئا عن طفلها الصغير الذي تخلت عنه على أمل إنقاذه من الإعدام والموت.

أين «جيرار» طفل الناجية؟

واصلت البحث عن ابنها، وفي نهاية 1918، في باتوم بجورجيا، قدم رجل إلى دار للأيتام تؤوي العشرات من الأطفال اليونانيين والأرمن، الذين أنقذتهم القوات الروسية التي تراجعت إلى القوقاز بعد أن قضى الشباب الأتراك على أوليائهم في المذابح.

الرجل سأل عن الأطفال الذين تراوح أعمارهم بين 8 و9 سنوات، وبعد أن اصطف الأطفال أمامه، أخرج صورة بالأبيض والأسود لزوجين، ووضعها أمام الأطفال، فصرخ أحدهم وهو يشير إلى الرجل: هذا والدي وتلك والدتي.. فاتضح بعدها أنه «جيرار» طفل سيربوهي الذي طال بحثها عنه.

تقول كاتبة مذكرات الناجية الأرمنية آني رومو: عندما علمت جدتي أن المئات من الأطفال قد تابعوا الروس أثناء عودتهم إلى القوقاز، كان لدي أمل قوي في أن يكون ابنها واحدا من هؤلاء الناجين الصغار.

اتصلت بأحد أعمامها الذين عاشوا في روسيا لتسأله أن يبحث عن ابنها، وحدث ما لم تتوقعه، إذ وجد عمها جيرار وعاد به إلى والدته في القسطنطينية. غادرت سيربوهي رفقة ابنها في 19 فبراير 1919، على متن قارب قادها في البداية إلى بيرايوس، ثم إلى جنوة، ثم إلى مرسيليا.

مرسيليا.. ورحلة البداية

استقرت سيربوهي مع طفلها في جنوب فرنسا وتحديدا في مرسيليا. وكانت تحمل بين أغراضها مذكرات رحلتها المرافقة للموت في مسيرات الإبادة التي ارتكبها الجنود الأتراك ضد الأرمن في عملية تطهير عرقي وصفت بأنها «الأعنف» من نوعه في التاريخ، ولم تثر تلك الجرائم في فرنسا بعد أن استقر بها الكثير من الأرمن الناجين من مذابح الاتراك.

كانت سيربوهي تحكي عن تلك المجازر لأحفادها، ولكن لم تثر أبدا تلك المذكرات التي كانت مخبأة بين أغراضها الخاصة.

المذكرات كانت اكتشافا نادرا، استطاعت من خلال سرد سيربوهي لمسيرة الموت تحديد خط سير الأرمن في رحلة الإبادة الجماعية التي قادها ضدهم العثمانيون.

كما عهدت آني مورو بالوثيقة التاريخية إلى المركز الوطني للذاكرة الأرمنية، في ديسين-شاربيو، حيث لا يزال يعيش العديد من أحفاد الناجين.

اكتشاف مذكرات الأرمنية الناجية دفع إلى تنظيم معرض متحرك في نهاية 2018، وتضمن صورا وخرائط لمسيرات الموت، تعرف عليها لأول مرة الجمهور الفرنسي والرأي العام.

اليوم، الكثير من المنظمات والدول تطالب تركيا بالاعتراف بالإبادة الجماعية، التي ارتكبتها أول القرن الـ20 واتسببت في وفاة 1.5 مليون أرمني.