-A +A
محمد مفتي
تمثّل إجراءات الأمن والسلامة أهمية قصوى في حياة كل مجتمع من أجل الحفاظ على الأرواح والممتلكات، وهي تمثل المؤشر الأول الدال على مدى تقدم المجتمع، وتهتم الدول المتقدمة كثيراً بقضية الأمن والسلامة وتخصص لها هيئات أو مؤسسات خاصة لصياغة مبادئها وتحديد قواعدها، وتمدها بكافة الإمكانيات التي تمكنها من ممارسة مهامها وتفعيل سياساتها، ووجود تلك الهيئات ببعض الدول يعكس اهتمامها بمواطنيها بالدرجة الأولى ثم بمقدراتها ومكتسباتها، ولا تعتبر إجراءات الأمن والسلامة مجرد مجموعة من الإجراءات الجزئية، بل هي خطط متكاملة لإدارة الطوارئ على أكثر من مستوى، تبدأ بما قبل حدوث الأزمة إلى أن يتم التخلص من كافة تداعياتها.

في مقال سابق بعنوان «ثقافة الطوارئ» تناولت هذا الأمر ولكن من منظور المواطن، وأوضحت أن الاهتمام بفكرة الطوارئ يعكس ثقافة يجب تعميمها، غير أنه في واقع الأمر لا يمكن تعميمها في حال عدم تطبيقها في الواقع العملي، فلو أن إجراءات الأمن والسلامة غير مفعلة في بعض المؤسسات سواء كانت عامة أو خاصة، أو أن المرافق نفسها غير معنية بتطبيق تلك الإجراءات، فسيصعب وقتها كثيراً تحويل إجراءات الأمن والسلامة إلى ثقافة عامة بالمجتمع، ولذلك فإن تحويل أي سلوك عام إلى ثقافة يعتمد على مدى تبني المؤسسات نفسها لهذه الثقافة تخطيطاً وإشرافاً ورقابةً.


لعله من فضلة القول هنا أن نذكر بعض المظاهر المأساوية لعدم الاهتمام بتلك الإجراءات، التي تمثلت في عدد من الحوادث المؤسفة التي مرت بنا خلال السنوات الأخيرة؛ سواء كانت حرائق أو حوادث مرورية وغيرها، والتي يجب أن تكون بمثابة جرس إنذار يفرض علينا ضرورة الاهتمام بإجراءات الأمن والسلامة في المملكة، وهو ما يدفعنا لضرورة تأسيس «هيئة عامة للطوارئ والسلامة» تكون معنية بإعداد وصياغة المواصفات البيئية والإنشائية التي يجب أن تلتزم بها جميع المؤسسات والمنشآت والمرافق في القطاعين العام والخاص، وتكون مختصة بتحديد جميع إجراءات الأمن والسلامة في المرافق ذات الصلة، مع تحديد السياسات العامة والمهام التخصصية لكل قطاع أو منشأة، ثم الرقابة على مدى تطبيق هذه الإجراءات، وتحديد العقوبات التي تقع على الأطراف المخالفة.

هذه الهيئة ستكون هيئة عامة مرجعية لجميع المرافق التي سيتم إنشاؤها مستقبلاً، وكذلك للمرافق الموجودة حالياً، وستكون معنية بالتأكد من مطابقة إجراءات الأمن والسلامة للمواصفات العالمية والمحلية، وبذلك لن يتم إنشاء أي مرفق حيوي كالمستشفيات، أو الطرق، أو المدارس أو غيرها، إلا بعد الحصول على موافقتها، ولعل الميزة الرئيسية لتلك الهيئة تكمن في قدرتها على التنسيق بين جميع المعلومات المتوفرة عن المشروع المزمع إنشاؤه، أو القواعد المراد تقنينها، وبالتالي الوصول إلى صياغات نظرية لتلك الإجراءات والشروط مستمدة من الواقع وملائمة له في نفس الوقت، وكما أن هذه الهيئة ستكون جهة رسمية تنفيذية فستكون أيضاً مؤسسة تدريبية يتم من خلالها تدريب الكوادر البشرية بشكل عملي على تنفيذ خطط الطوارئ، من خلال فرض الفرضيات ثم العمل على معالجتها.

قد تكون هناك حالياً إدارة خاصة بالرقابة على إجراءات الأمن والسلامة ببعض الوزارات أو المؤسسات، ولا سيما لو كانت عاملة بقطاع يعتبر تلك الإجراءات جزءاً أساسياً من العمل وليس مجرد إجراء احترازي يمكن تجاهله (كالمنشآت العاملة في قطاع النفط والتصنيع الثقيل)، ولكن وجود هذه الإدارات لا يغني عن وجود هذه الهيئة، فما نريده هو توحيد الإجراءات وتوضيح تفاصيلها، نريد هيئة مركزية يتم من خلالها صياغة سياسات وإجراءات الأمن والسلامة لجميع القطاعات، والتنسيق بين متطلبات عملها وبين السياسات الإستراتيجية العامة للدولة، والتنسيق أيضاً بين متطلبات مختلف مؤسسات الدولة على اختلاف إمكانياتها.

يطلق المتخصصون على إجراءات الأمن والسلامة التي أشرنا إليها آنفاً مصطلح «إدارة الطوارئ» وهذه الإدارة باتت حالياً جزءاً لا يتجزأ من عملية الإدارة بكل منشأة بشكل عام، وقد أصبحت منهجاً إدارياً متخصصاً يتم تدريسه بشكل مفصل كأحد فروع علم الإدارة تحت عناوين من قبيل «إدارة الأزمات» أو «إدارة الكوارث»، وسبب الاهتمام بها هو أنها باتت جزءاً أساسياً من عملية التنمية البشرية، وضرورة أساسية لاستمرار الأعمال وتقدم المجتمع، فحدوث الكوارث الطبيعية أو البشرية يعرقل من نمو المجتمع بل ويعيده في بعض الحالات الحادة لمربع الصفر مرة أخرى، لذلك فإن إنشاء هيئة عامة لإدارة الطوارئ يعتبر ضرورة أساسية وليس فكرة تكميلية أو إضافية يمكن الاستغناء عنها، ليس فقط لأنها أساسية في الحفاظ على الأرواح البشرية وحماية ممتلكاتها، بل أيضاً لكونها ركيزة جوهرية لتطور المجتمع وحماية استقراره واستدامة نموه.

* كاتب سعودي

dr.mufti@acctecon.com