-A +A
نجيب يماني
من نافلة القول الإشارة إلى أن وظيفة مجلس الشورى، أو ما يماثلها من تشكيلات نيابية شبيهة، تتمثّل في كونها ضلعًا مهمًا في منظومة إدارة أيّ دولة، بما تملكه من صلاحيات؛ منها التشريعي، والمحاسبي، والتدقيقي، وغيرها، وتعلّق عليها آمال عراض في طرح الموضوعات التي تشغل بال الجمهور، كونها تمثّله نيابة، وتطرح قضاياه تفاعلاً واجبًا.. وعليه فمن المتوقع أن يكون أعضاء هذه المجالس على قدر المسؤولية، ويطرحوا القضايا على قاعدة الحاجة الماسة، والضرورة الملحة، والأهم قبل المهم، فليس مقبولا أن يتمّ طرح أيّ قضية تبدو في ظاهرها جوهرية، أو على أحسن الفروض ليست بدرجة من الأهمية، بحيث تأخذ وقت الأعضاء في السجال والنقاش، ويمتد بهم الخلاف حولها إلى غاية التصويت عليها، وترجيحها على قاعدة الأصوات المتكاثرة..

أقول هذا؛ وفي الخاطر ما تناقلته الأخبار مؤخرًا عن طرح موضوع إنشاء إذاعة متخصّصة لبث تلاوة القرآن الكريم، على طاولة مجلس الشورى، وما دار من سجال استوجب اللجوء إلى قاعدة التصويت لتحظى التوصية بقبول البعض لها واعتراض آخرين، وطفقت أسأل نفسي: هل دولتنا مقصرة في حقّ القرآن الكريم إلى هذه الدرجة التي تشغل أعضاء مجلس الشورى، وتصرف وقتهم للمناقشة في أمر إنشاء إذاعة مختصة ببث تلاوة القرآن الكريم فقط؟!


إن واقع الحال لدينا يجعل من مجرد التفكير في طرح مثل هذه التوصيات مجرد إهدار للوقت، وانصراف عن القضايا الجوهرية التي يجب أن ينشغل بها الأعضاء والعضوات، ولا يحمل متزيّد أو متزيّدة قولي هذا على مظنة التعريض بمكانة القرآن الكريم، وما يستحقه من التبجيل والتكريم والعناية الفائقة، وهذا بحمد الله ما أوفته دولتنا حقه ومستحقه على مر الحقب والأزمان، ودونكم فانظروا إلى القنوات المتخصصة للقرآن الكريم والسنة المطهرة، وطباعة المصحف الشريف، وحلقات تحفيظ القرآن، والمسابقات العديدة التي تنظمها المملكة على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، كما نفذت المملكة برامج لتحفيظ القرآن وتجويده في 78 دولة، كما بلغت مؤسساتها القرآنية 68 كلية ومعهدا، وهذا ما يؤكد اهتمام المملكة بكتاب الله وعلومه، والمنطق في ذلك محبة خالصة لكتاب الله، واستشعار كبير بعظم الرسالة الملقاة على عاتق المملكة بما خصها الله به من احتضان الحرمين الشريفين، وارتفاعها مكانًا منيفًا بهذا الشرف في قلوب المسلمين في أصقاع الدنيا كلها، وعلى هذا فإن انشغال بعض أعضاء وعضوات مجلس الشورى بمناقشة ما هو محفوظ بالضرورة، ومحاط بالرعاية والاهتمام واقعًا ملموسًا أمر يدفع بالمرء إلى الذهاب بعيدًا إلى النظر والبحث في الغاية من مثل هذه التوصيات والمناقشات الانصرافية.. والحق أنني لم أجد مكانًا لذلك إلا في خانة «التزيّد»، واصطناع مناخ داخل الشورى يشبه ما كنا نكابده أيام «الصحوة»، من اهتمام بحالة تدين ظاهري، واهتمام بقضايا مفروغ منها، ولكنها تحمل على محامل الظهور وتمرير الأجندات الخفية، ولي في ملاحظة ذلك إشارات سابقة في بعض مقالاتي بهذه الزاوية، وأجد وثيق الصلة بين توصية إنشاء إذاعة متخصصة لبث تلاوات القرآن الكريم، ومنها على سبيل المثال: المطالبة التي تقدم بها بعض المنتسبين لـ«مجلس الشورى» في وقت سابق بعودة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لضبط الشارع العام، ويومها فندت تلك الدعوة في مقال تحت عنوان «الهيئة» موجودة يا «شورى».. فعن ماذا تبحثون؟!، ولا أظن القارئ الكريم ينسى أيضًا خبر تحفّظ بعض أعضاء الشورى على استخدام مصطلح «تمكين المرأة»، وحجتهم في ذلك أنه «مفهوم ملتبس، أو غامض، أو غير ملائم»، مقترحين استخدام مصطلح «رفع مشاركة المرأة» بديلاً عنه.. والذي رددت عليه أيضًا بمقال في هذا المكان أيضًا تحت عنوان: «فوبيا» تمكين المرأة «تحت قبّة الشورى!»، وثمة مقالات أخرى، كنت أستشعر فيها محاولة بث الروح في جسد الصحوة الميت، ليعود في مسارب حياتنا من جديد، ولكن هيهات!

على أنني، لو أحسنت الظن وتجاوزت عن انصرافية التوصية بإنشاء إذاعة لتلاوات القرآن الكريم فقط، وذهاب البعض في مواقع التواصل الاجتماعي إلى القول بأنها ستفرد لنشر وإذاعة القراءات المختلفة، فإني أرى أن ذلك أدعى للخلط والتلبيس على العوام من الناس، فهذا النوع من المعرفة معقود على المختصين والدارسين المتعمقين والمتبحرين، وليس من علوم العوام، الذين تكفيهم معرفة القراءة السائدة في مجتمعاتهم بما يمكنه من تلاوة القرآن على نسق صحيح وسليم، وما ضرهم أن لا يعرفوا بقية القراءات، فليس هذا من الحاجة الملحة بمكان، فضلا عن ما أشرت إليه من حالة التلبيس التي قد يقعون فيها جراء اختلاف مجرى اللسان في ألفاظ من القرآن تختلف فيها القراءات كما هو معروف.

في الملتقى العلمي الذي أقيم تحت إشراف رابطة العالم الإسلامي وعقد في مكة المكرمة أقر المجتمعون على إيجاد برامج علمية لتدبر نصوص الوحيين لتحويلها إلى سلوك يومي لعموم المسلمين وكان من الأجدر أن يتبنى مجلس الشورى مثل هذه التوصية..

الواضح للعيان أن بعض أعضاء وعضوات مجلس الشورى بحاجة إلى دراسة فقه الأولويات، ومعرفة الغاية من اختيار الشخص عضوًا في مجلس للشورى، وليمدوا بصرهم وبصيرتهم إلى الأفق المتراحب الذي ترمي إليه المملكة على مطايا رؤية 2030، عندها لن يضيعوا وقتهم ووقت الوطن في استصدار توصيات لإنشاء ما هو موجود أصلا.

* كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com