-A +A
عبداللطيف الضويحي
مرة أخرى ومن جديد تتردد في أسماع الشارع العربي عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام»، هذه المرة من بيروت عاصمة الحرية والإعلام والتعددية السياسية وعاصمة الفكر القومي العربي. لكنها في المقابل عاصمة أغرب نظام سياسي ديمقراطي طائفي، فهل بسبب هذا النظام السياسي الطائفي تأخر الحراك الشعبي اللبناني عن بقية دول الربيع العربي؟ وهل يتوقف هذا الحراك أو يخف زخمه عند سقف الوعود بالإصلاحات الاقتصادية أو ما صار يعرف بالورقة الاقتصادية التي وعد بتحقيقها رئيس الحكومة وتحدث عنها بعض القيادات والمسؤولين؟ أم أن هذا الحراك سيمتد ويتصاعد للمطالبة بإسقاط الحكومة، وتشكيل حكومة إنقاذ، وإطلاق يد القضاء في محاسبة الفاسدين، والعمل على إعادة إنتاج نظام سياسي غير طائفي، بما في ذلك من تغيير لنظام الانتخابات والمحاصصة الطائفية والذي أدى بدوره لاستشراء الفساد والمحميات الطائفية جنبا إلى جنب حكومات متعاقبة منذ وجد لبنان نفسه تحت سلطة الأحزاب الطائفية.

في لبنان لا يمكن الفصل والتمييز بين الطائفية والعمل السياسي والفساد والمليشياوية بما تتطلبه ويعززها من أنواع التجارة المشروعة وغير المشروعة من سمسرة ورشى ونهب الممتلكات العامة من أراض وأملاك بحرية والاتجار بالكهرباء والاتصالات وكل الخدمات.


لا أحد يستطيع أن يعرف يقيناً الأسباب التي جعلت تونس تأتي كأول المحطات التي انطلق منها قطار ثورات ما بات يعرف بالربيع العربي. ولا أحد يعرف لماذا تأخرت الثورة السودانية كثيرا حتى أصبحت ضمن ما بات يعرف بالموجة الثانية من الربيع العربي، والتي أصبحت على ما يبدو صاحبة الحقوق الافتراضية للحراك الشعبي في العراق وفي لبنان. فهل هناك خيط بين ما جرى في السودان وما يجري في لبنان وفي العراق، قد يمنعنا من رؤية هذا التأثير والحضور للتجربة السودانية هو حجم الفساد والظلم وقسوة الحياة التي أصبح يكابدها الشعبان اللبناني والعراقي؟

من السهل أن نلقي باللائمة على الاستبداد السياسي لكل الثورات التي طالت الأنظمة العربية في ثورات الربيع العربي، ومن السهل كذلك بتحميل الظروف المعيشية الاقتصادية القاسية مسؤولية إشعال حراك الشارع، بل من السهل القول إن التهميش الاجتماعي هو السبب الرئيس لإشعال الشرارة الأولى في كل الثورات العربية. لكن كل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تعني شيئا عندما تنتهك كرامة الإنسان. يتحمل المواطن كل أصناف القسوة لكنه لا يتحمل المساس بكرامته. ولا أحد يعرف متى يبقى المطلب الاجتماعي مطلبا اجتماعيا صرفا، ومتى يبقى المطلب الاقتصادي مطلبا اقتصاديا صرفا، ومتى يتحول إلى قنبلة تسمى الكرامة.

أستطيع القول بثقة إن الاختلاف بين ثورات الربيع العربي في نسختها الأولى ونسختها الثانية هو طبيعة النظم السياسية المستهدفة في الحالة الأولى مقارنة بالنظم السياسية المستهدفة في الحالة الثانية. لقد عصفت ثورات الربيع العربي في الحالة الأولى بالأنظمة السياسية الديكتاتورية الفردية المستبدة، بينما يعصف الحراك الشعبي في الحالة الثانية بالنظم السياسية الطائفية، مثل لبنان وقبلها العراق. لأن النظامين السياسيين في العراق ولبنان متماثلان بل متطابقان من حيث فرضهما طبقة عائلات طائفية سياسية لا تتم الديمقراطية إلا من خلالها، وهذا بالضبط ما يعوق التجربتين الديمقراطيتين في العراق ولبنان. لأن هذه العوائل تستمتع بالثروات والنفوذ والتأثير السياسي حتى عندما لا تفوز بالانتخابات. في الحقيقة لا توجد معارضة في هاتين التجربتين، والنظام السياسي في العراق ولبنان، كل زعماء الطوائف يحكمون ولا يوجد أحد خارج دائرة الحكم، ولذلك يعد التغيير شبه مستحيل في هذا النوع من الأنظمة، حيث تتداخل المصالح السياسية مع المصالح الاقتصادية والاجتماعية وهذا ما يجعلنا نلاحظ محاولة أغلب المسؤولين والزعامات في العراق وفي لبنان تفسير الحراك الشعبي في البلدين على أنها لا تتجاوز مطالب اقتصادية. فالمطالب الاقتصادية في النهاية أرحم لهؤلاء المسؤولين من سحب الثقة بهم، وأرحم ألف مرة من تقديمهم للمحاكم بتهم الفساد.

وكلما طال أمد الحراك الشعبي في لبنان والعراق تحولت المطالب إلى مطالب سياسية وليست اقتصادية بحتة، فالنظام في الحالتين اللبنانية والعراقية للأسف يؤسسان لأحد احتمالين اثنين لا ثالث لهما، إما دولة فاشلة بكل المقاييس أو دولة مهيأة للتقسيم والتفكك. وهذا ما يثير علامات الاستفهام حول دستور بريمر في العراق المبطن بتفكيك العراق، وهي نفس التساؤلات لدى الآن حول ما إذا كان الدستور السوري المزمع إقراره قد كتبه بريمر أو باركه هو أو من يريد تقطيع سوريا وتفكيكها إلى دويلات على خطى الدستور العراقي.

* كاتب سعودي

Dwaihi@agfund.org