-A +A
صدقة يحيى فاضل
بعيداً عن الشروحات الأكاديمية التي يقدمها «علم السياسة»، نذكِّر بأن حكومات العالم تقسَّم إلى نوعين رئيسين: حكومات اختارتها شعوبها، لتمثلها حقاً، وتدير البلاد وفق دستور أقرته غالبية شعوبها، يضمن السيادة للشعوب؛ وحكومات فُرضت على شعوبها، ولا تمثل هذه الشعوب بالفعل. النوع الأول صالح، وسوي؛ والنوع الثاني طالح، أو غير سوي. وقد ابتليت كثير من دول العالم النامي بحكومات من النوع الثاني. وما زال هذا الابتلاء مستمراً، رغم كونه المسبب الرئيس لمعاناة وتخلف تلك الدول.

يقول المفكر ميكافيللي إن «الديكتاتورية» ضرورة في ثلاث حالات فقط، هي: حالة إنشاء دولة من عدم، وحالة إصلاح دولة فاسدة جداً، وحالة إنقاذ دولة من انهيار داهم. أما بعد ذلك، فينبغي أن تعاد الأمور إلى الوضع الطبيعي، أي – في رأي ميكافيللي ومعظم فلاسفة السياسة الآخرين – إلى نقيض الاستبداد. وعادة ما يسمى أولئك الرجال الذين ينقذون بلادهم، وينتشلونها مما كانت غارقة فيه من سوء وفساد، ليضعوها في الطريق السوي، بـ «الديكتاتوريين المصلحين»... والذين يتخلى معظمهم عن السلطة، بعد القيام بتلك المهمة العظيمة، فيستحقون بذلك أن تسجل أسماؤهم في قائمة «عظماء التاريخ»، بالنسبة لبلدهم وللعالم بأسره.


وغالباً ما يعني «تقييم» الأنظمة السياسية، ومعرفة مدى فعاليتها وصلاحها، الحديث عن «أنواع» الحكومات (النظم السياسية). حيث يتم توضيح تقسيمات الحكومات وأنواعها الرئيسة والمتفرعة. فعند تقييم نظام سياسي معين، يجب التركيز على عدة جوانب، أهمها تركيبة النظام (نوعه) وما ينتج منه ويترتب على وجوده (Consequences) بالنسبة لبلده وللعالم من حوله. وبكلمات أخرى، مدى خدمته للمصلحة العامة لبلده وشعبه.

وباختصار، نذكر بأن النظام السوري الحالي عبارة عن ديكتاتورية قلة، تصادر حق الشعب السوري في الحرية والعدالة والمساواة. أما ما ترتب على قيام هذا النظام وتواجده فنوجزه فيما يلي.

***

يتذكر المرء هذه الحقائق عندما يشاهد، في العالم العربي وغيره، مآسيَ سياسية دامية، يتسبب في وجودها النوع السيئ من الحكومات. من ذلك النظام الأسدي في سوريا، برئاسة بشار الأسد. وعندما نستعرض ما قام به هذا «الديكتاتور» من جرائم، ضد شعبه وأمته، ندرك عظم ضرره وأذاه. فتولي السلطة يبدو أنه الغاية الكبرى لديه... فالمهم، أن يكون على رأس الحكم، لأطول فترة ممكنة، ومهما كان الثمن، الذي يدفعه شعب سوريا، والأمة العربية، من جراء بقائه في سدة الحكم. واضح أن لبشار الأسد أهدافاً شخصية ضيقة – تجعله من أسوأ الطغاة. فأهدافه، وما نجم عن سياساته، تجعله مثالاً على الرؤساء المستبدين. وهذه الأهداف لم تكن أبداً لصالح شعبه وأمته... بل إن العمل على تحقيقها كان بهدف: إرضاء غرور هذا «الزعيم»، وتوسيع نطاق سلطانه.

هو، كما يبدو، يريد إقامة دولة علوية بوليسية قوية، تبسط نفوذها على شعبها وجيرانها، ويكون هو وزمرته الآمر الناهي فيها. أما «المصلحة العليا العامة» لشعب سوريا، وللأمة العربية، فلم تكن في حساباته، كما تشير الدلائل اللاحقة لاستيلائه (المسرحي) على السلطة.

عندما أمسك بشار الأسد بمقاليد الأمور في دمشق عام 2000م، وُضع تحت امتحان عسير، واختبار شاق، لا ينجح فيه إلا عظماء الرجال بالفعل. وكان بإمكان بشار أن ينجح – وبتفوق – ويصبح من الرواد القلائل في منطقة تحفل بأعداد كبيرة من الفاشلين والراسبين في امتحانات مماثلة. ولكن الرئيس الدكتور اختار الانحياز للاستبداد، ولـ «مصالح خاصة» سعى لتحقيقها، بعناد عجيب، وصلف رهيب، وأيضاً غباء قاتل... فجلب لشعبه ولأمته، وحتى لشخصه وزمرته و«بطانته»، الدمار والعار... ووضع مستقبل بلاده وأمته العربية على كف عفريت. لم يتعظ لما حصل لجاره وشبيهه العراقي.

يدعي المدافعون عن النظام الأسدي السوري أن: مسألة «الصمود» (ضد الإستراتيجية الإمبريالية - الصهيونية بالمنطقة) تقتضي أن يمسك حزب البعث بالسلطة بيد من حديد. وتلك فرية باطلة مردود عليها. أين ذهب «الصمود» وإسرائيل تستوطن الجولان، ومقاتلاتها أصبحت تجوب أجواء سوريا، وتقصف أهدافاً في دمشق والغوطة، وغيرها، وقتما تشاء؟! وهل الصمود يعني التنكيل بالشعب؟!

***

لو اختار بشار الأسد الصراط المستقيم، الذي كان سيؤدي إلى خير سوريا والأمة (ومجد شخصي حقيقي وخالد) لبادر، فور تسلمه السلطة، لنقل البلاد إلى النظام الصالح... الذي يعكس بالفعل رغبة ومطالب وطموحات شعبه، وتسيير الأمور فيه بموجب «دستور» تمثيلي، تقره غالبية أهل الشام. ثم ينصرف، خلال فترة رئاسته، التي يجب أن تكون محدودة – لبناء سوريا، وتجنيبها كل الشرور الممكنة، والمتربصة بقوة بها وبالأمة العربية، ولا يُستدرج، أو ينزلق خلف أهواء واهية وشعارات زائفة.

ولو كان النظام تمثيلياً، لما اضطر، أو تجرأ، على مهاجمة شعبه، والاستعانة بإيران، وحزب الله، ومن ثم روسيا، ولامتنع عن خوض حرب استنزافية هائلة – دفعت إليها الصهيونية وأعوانها، عياناً بياناً – ضد غالبية شعبه، ولما تكبدت سوريا حوالى مليون قتيلاً، ومئات الآلاف من الجرحى والمشردين، إضافة إلى دمار شامل غير مسبوق... أثقل – وما زال – كاهل الشام كلها، وأعاقها عن التركيز على التنمية الحقيقية.

***

ولو كانت هناك قيادة حقيقية تمثيلية سورية راشدة، لاستغلت إمكانات سوريا العظيمة، وعلم وحضارة شعبها، في دعم قوة سوريا والأمة بقدرات وإمكانات حديثة... تطور باستمرار... لتصبح سوريا دولة قوية، يستمتع بخيراتها أهلها، وأمتها. كما يستعين بها العرب على مواجهة التحدي الصهيوني المتمركز في شرق البحر الأبيض المتوسط... الأمر الذي ربما كان قد يرغم إسرائيل على التخلي عن صلفها وغطرستها، والموافقة على حل القضية الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية.

لو حصل ذلك، لكانت سوريا الآن واحدة من أكثر دول العالم النامي تطوراً وازدهاراً، وأمست إحدى الدول الإقليمية الرئيسية، في عالم اليوم. ولما جرؤت عليها بعض الدول، وتداعت ضدها بعض الجماعات الإرهابية، بوحشية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الدول المعاصر، كما حصل منذ العام 2011م. ولأصبحت سوريا قدوة حسنة، وذخراً هائلاً... للعرب والمسلمين، بدل أن تكون جرحاً نازفاً في قلوبهم، ومصدراً من مصادر الويل والثبور.

حقاً، إن «النظام السياسي» يصنع الفرق، في أي بلد. إذ يمكن أن يقود بلاده إلى الخير والرفعة والكرامة، أو يسير به نحو الشرور والمحن والدمار، ويرمي به في هاوية الذل والهوان. إنه لدرس قاسٍ... يجب أن تعيه الأمة جيداً... حتى لا تتكرر هذه المأساة.* كاتب سعودي