-A +A
عبدالرحمن الجديع
تُعد الدبلوماسية الوسيلة السلمية الأنجع في العلاقات السياسية الدولية، فهي أسلوب يعتمد الاتصال الرسمي بين الدول، ويتبنى الحوار والتفاوض في النِّزاعات الدولية. وتعمل الدبلوماسية كإحدى أدوات السياسة الخارجية، شأنها في ذلك شأن القوة العسكرية، لحماية أمن الدول ومصالحها العليا. إلا أنّ الدبلوماسية تتميز بمرونة في التحرك والحوار ومواجهة التحديات التي قد تهدّد أمن الدول واستقرارها، وذلك بعكس القوة العسكرية التي قد تؤدّي إلى الدمار. وتُعرَّف الدبلوماسية في الفقه السياسي بأنها إدارة العلاقات الدولية عن طريق التفاوض. وتبرز أهمية الدبلوماسية الإيجابية في بلورة ديناميكية جديدة على أساس آليات الدبلوماسية الإيجابية، وكذلك من حقيقة أنّ منطقة الشرق الأوسط والخليج تشهد وشهدت تحولات مهمة وخطيرة في مسارات السياسة الإقليمية والدولية مؤخراً.

تسهم الدبلوماسية الإيجابية Positive diplomacy في خلق ديناميكية جديدة، والعمل على فرز الأولويات، وفق الحوار البنّاء والاعتماد على فرض واقع جدي في مجريات الأزمات القائمة، خصوصاً أنّ النظام العربي الإقليمي شهد، في السنوات القليلة الماضية، هزّات أدت إلى تصدُّع بعض مكوناته، وذلك بسبب ما دُعِيَ بـ«الربيع العربي» الذي يبتعد كل البعد عن هذه التسمية، لأنه ساهم في تدمير بعض الدول العربية، مثل ليبيا وسوريا، وحاول تدميرَ مصر واليمن. كما شهدَت الساحةُ السورية تغيُّرات متلاحقة، خصوصاً بعد اتفاق الدول العظمى والكبرى على الأفكار والسياسات حيال الصراع الدائر في سوريا في أعقاب أخْذِها بالاعتبار نتائج مفاوضات أستانا لبناء الثقة بين أطراف النزاع، وذلك من أجل التوصل إلى ما عرف بـ«سوريا المفيدة». ولعل ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أنّ اللقاءات المتكررة بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس حسن روحاني والرئيس رجب طيب أردوغان، سواء كان في الأستانا، أو في سوتشي، أو في أنقرة، تعكس تفاهمات وأفكاراً تم الاتفاق عليها بين هذه الدول؛ روسيا وإيران وتركيا حيال الأزمة في سوريا العربية، رغم عدم وجود سوريا أو الجامعة العربية في هذه اللقاءات، وكأنّ القضية السورية لا تهمّ العرب.


لقد أكدت جولات هذه اللقاءات على وقف إطلاق النار، وتخصيص مناطق خفض التوتر والتصعيد، على أن تكون خطوة تتبعها خطوات للحل السياسي في سوريا؛ أي انتهاج تجزئة سوريا إلى مناطق نفوذ، ربما على أساس مذهبي أو عرقي، بالرغم من أنّ هناك صعوبة في رسم حدود هذه المناطق، رغم التواجد الروسي والإشراف والمراقبة عليها، علماً بأنّ ثمة تفاصيل كثيرة لم يُعلنْ عنها بعد في التعامل مع الأزمة السورية.

أدى هذا الواقع إلى تشجيع أردوغان على التهور، والقيام بشن حملة عسكرية، وغزو شمال سوريا، حيث تتواجد قوات سوريا الديموقراطية «قسد». لقد أدانت المملكة والدول العربية الفاعلة الحملة العسكرية ووسمتها بالعدوان السافر على وحدة واستقلال وسيادة الأراضي السورية، ودعت لوقف هذه العمليات المتهورة التي تهدّد الأمن والسلم الإقليمي، بصرف النظر عن المبررات والذرائع الواهية التي يسوقها النظام التركي. إنّ ما سمي بـ«نبع السلام» تمثل خطوة متهورة من الناحية السياسية، وتعكس ضيق أفق ومغامرة تعيد الإرهاب مجدداً إلى سوريا، وتدعم داعش الظلامية، كما سيكون لها إفرازاتها السلبية في تعميق وإعاقة أزمة اللاجئين، وسيكون لها، بلا ريب، تداعيات وخيمة من حيث البعد القانوني والإنساني.

ومن ناحية البعد الجغرافي، فإنّ العملية فيض من غيض الكراهية للعرب، وهذا ينكأ جراح الماضي المتمثل في الاضطهاد والقتل والدمار الذي جرى على أيادي أجداد أردوغان للعرب والدول العربية، ولعل مجزرة الأرمن تعد حدثاً بسيطاً إذا ما قورنت بالمجازر التي ارتكبها الأتراك إبّان احتلالهم الديار العربية لمدة تتجاوز الأربعمائة عام من الظلم والكبت والعيش في دياجير الظلام، بعدما كان العرب، قبل وصول العثمانيين، منارة العلم والفن في العالم أجمع.

الغطرسة التركية ستقابل في النهاية بالشك والريبة من روسيا وإيران، بالرغم من علمهما بالنوايا التي لم يُخفِها أردوغان وصرح عنها في الاجتماع الأخير في أنقرة مع روحاني وبوتين، وهو الأمر الذي دفع روسيا للتصدي، ومنع صدور بيان من مجلس الأمن الدولي يدين الغزو التركي لشمال سوريا؛ ذلك لأنّ لكل دولة مصالحَها في الأزمة، وهي تدعم أطرافاً موالين لها. فعلى سبيل المثال، يعد التواجد الروسي الأقوى في سوريا، ولن تسمح موسكو بمزاحمتها في نفوذها، كما أنّ إيران لن تقبل بالسيطرة التركية على شمال سوريا وتهديد نفوذها، وهي المتورطة في دعم فصائلَ متطرفة موالية لها تسعى إلى تعزيز مكتسباتها، ولها تواجد عسكري في سوريا، ولن تتخلى عن نفوذها فيها مهما يكن الأمر، ناهيك عن أنّ لإيران إستراتيجية ثابتة، بالنسبة إلى العراق ولبنان، في دعم الفصائل والمليشيات التابعة لها. وبالتالي، ترى إيران أنّ أي تحرك تركي في سوريا لا يخدم نفوذها هناك. والحقيقة أنّ إيران، مَثَلُها مَثَلُ العدوّ الصهيوني، تسعى إلى تفتيت الدول العربية إلى مناطق نفوذ على أساس عرقي ومذهبي مقيت يُوافق النهج الإسرائيلي في الفصل العنصري «الأبرتايد» والتطرف الإيراني الفارسي.

من الضروري والعاجل فرض العقوبات للجم الشراهة الإيرانية والتركية وأطماعهما في الأراضي العربية، والكفّ عن الغطرسة واعتماد سياسة الأمر الواقع؛ أي لا بد أن يكون للأمم المتحدة دورٌ في موضوع سوريا كأي أزمة دولية أخرى؛ فهذا الغياب وعدم قدرة الأمم المتحدة على العمل الفعّال يدلّان على تضارب المصالح في سوريا، وارتباطها بأولويات متعلقة بمواقف دولية، ولربما أسفرت جهود اللجنة الدستورية التي أعلن عنها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، والتي تضمّ ممثلين عن الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني في سوريا، عن انفراجات في الأزمة السورية، بما يحقق صياغة توافق يؤدّي إلى الحل السياسي بين الأطراف السورية المتنازعة، وهذا يساهم، بلا ريب، في توفير الأجواء الملائمة للتسوية السلمية، خصوصاً أنّ آليات هذا المسار تعتمد على إيجاد أنساق للتواصل مع الدول المجاورة، واحتواء التدخلات السافرة في شؤونها، وَفقاً لمبادئ القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، كما تتطلب ضغطاً من المجتمع الدولي، امتثالاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254. وإنهاء هذه الأزمة المؤرِّقة للضمير العربي، وتحقيق سلام دائم واستقرار.

لذا يمكن القول، ومن منظور واقعي، إنّ اعتماد الدبلوماسية الإيجابية والنمط الديناميكي الفاعل من العمل الدبلوماسي سيدفع، بلا رَيب، في اتجاه التحوّل من مواقف التصلب لدى الأطراف المتنازعة إلى مواقف أكثر إيجابية وقبولا بالحوار والحل السياسي، ومن المأمول أن تنتهز القيادة السورية الإرهاصات التي بدأت تتبلور، والترحيب بالمصالحة العربية، وإدراك الأطماع التي تجسدت أمام ناظريها، سواء من حيث النوايا التركية، أو من حيث جعل دمشق تابعة لعمامة الولي الفقيه. وعلى دمشق التفتيش في ذاكرتها، وإدراك أنها سوريا العرب وإحدى ركائز النظام العربي المشترك، وأنّ مصلحتها وخيارها الإستراتيجي في دعم المصالحة العربية يصبّ في مستقبل العلاقات العربية - العربية، لا في خدمة أجندة مَن يعبثون بأمن الوطن العربي واستقراره.

* كاتب سعودي