-A +A
رامي الخليفة العلي
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن سحب قواتها المتواجدة على خط الحدود السورية ـ التركية مما أعطى لأول مرة مصداقية لوعود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشن عملية عسكرية لتشكيل منطقة آمنة على امتداد الحدود. خلال السنوات الست الماضية لطالما طالبت الحكومة التركية الولايات المتحدة الأمريكية بتلك المنطقة ولطالما هدد أردوغان بأنه سوف يجتاح الشمال السوري، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص والدول الغربية عارضت هذا المسعى التركي، باعتبار أن هناك نظرتين مختلفتين لقوات سوريا الديموقراطية، تركيا التي ترى في تلك المليشيات امتدادا لحزب العمال الكردستاني العدو التاريخي للأتراك، بينما يرى الغرب بأن قوات سوريا الديموقراطية هي حليف محلي في الحرب على الإرهاب، وبالتالي على تركيا أن تفصل بين مشكلتها مع حزب العمال وتلك المليشيات وهذا ما لم تقبل به تركيا طوال الوقت. صحيح أن الولايات المتحدة والجانب التركي كانا قد أعلنا عن اتفاق حول المنطقة الآمنة ولكن الفهم العام وخصوصا الكردي كان يرى أن هذا الاتفاق لن يكون مختلفا في مضمونه عن اتفاق منبج والذي لم يتمخض سوى عن دورية تركية ـ أمريكية مشتركة، بينما بقي الوضع على حاله بالنسبة لقوات سوريا الديموقراطية. وفق هذا السياق بدا القرار الأمريكي مفاجئا بالنسبة للأكراد وكذلك بالنسبة للمراقبين، لذلك سارع أحد ممثلي (قسد) للقول إن الخطوة الأمريكية تمثل ضربة بالظهر للأكراد. كما أن الأصوات بدأت تعلو بأن قسد لن تقف متفرجة على تقدم القوات التركية والمليشيات التابعة للمعارضة والمتحالفة مع الجانب التركي، ولكنها سوف تقاوم وهددت بفتح حرب شاملة على طول الحدود مع تركيا. كما أن قسد عمدت إلى محاولة استخدام ورقة معتقلي تنظيم داعش الذين بحوزتها عندما أعلنت بأنها اضطرت لسحب بعض عناصرها المشرفين على سجون تنظيم داعش. الأكراد يدركون أن هدف تركيا بعيد كل البعد عما يدعيه أردوغان بأن العملية لضمان الأمن القومي التركي أو إعادة اللاجئين أو أيا كان المبرر، هم يدركون أن الهدف هو منع إقامة أي كيان كردي قابل للحياة في منطقة الجزيرة السورية، وإذا استطاع أردوغان استئصال التنظيمات المسلحة الكردية فهو لن يتوانى عن فعل ذلك، وإن لم يستطع فهو سيحاول إضعافها إلى أبعد الحدود، مع إجهاض أي محاولة لبناء كيان متصل جغرافيا، هذا هو هدف أردوغان بشكل مباشر وبمنتهى الوضوح، يبقى السؤال حول خيارات الأكراد.

التلويح بقضية معتقلي داعش وعائلاتهم ليس خيارا واقعيا، لأن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليس أكثر من شركة مساهمة استخدمها ويستخدمها الجميع ضد الجميع، بما فيها قوات سوريا الديموقراطية، وهذا الاستخدام لن يغير شيئا في مواقف الدول المؤثرة في الملف السوري، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن هذه القضية مفيدة كورقة في مفاوضات تحت الطاولة أكثر من كونها ورقة يمكن المساومة عليها إعلاميا، بل إن ذلك يحرقها. أما عن الخيارات الأخرى فهي صعبة ومؤلمة لأنها ببساطة تطيح بالتجربة السابقة برمتها. الخيار الأول أن تقبل قسد بالأمر الواقع وهذا يعني أن ترتب وجودها بالتوافق مع الولايات المتحدة وبما يتفق مع شروط التوافق التركي ـ الأمريكي. وهذا يعني أن الكيان الإداري والسياسي الذي تشكل خلال السنوات الماضية سوف يتقلص بما لا يستفز الجانب التركي، وبالطبع ذلك يعني أيضا التخلي عن الحلم العزيز للأكراد ببناء كيانهم الخاص تحت أي يافطة سواء كانت فيدرالية أو كونفدرالية أو أي شكل آخر. الخيار الثاني أن تدخل قسد في مواجهة شاملة مع الجانب التركي وحلفائه من مليشيات المعارضة، وهذا سوف يعرض الحاضنة الاجتماعية للكثير من المآسي، والتي ربما تستثير الرأي العام الدولي، ولكن من السذاجة التعويل على هذا الرأي العام، كما أن الولايات المتحدة كما ذكر ترمب ليست في وارد الدخول في هكذا صراع. أما الخيار الثالث فهو الانحناء للعاصفة ثم البدء بحرب عصابات تدخل القوات التركية في حرب استنزاف طويلة المدى ولكن هذا الخيار ليس بالسهل لأن الجزيرة السورية ليست منطقة جبلية كما جبال قنديل، كما أن الولايات المتحدة لن تؤيد ذلك الصراع الذي يهدد تواجدها في المنطقة، لذلك سوف تضغط على الأكراد للتخلي عن هذه الحرب. نقطة أخيرة سوف تكون حاسمة وهو مقدار ما يبقى من امتيازات لقسد بعد إنشاء المنطقة الآمنة، فإذا افترضنا أن تركيا نجحت بالفعل بإنشاء تلك المنطقة بعمق 5 أو 8 أو حتى 30 كم فذلك يعني أن هناك مناطق شاسعة سوف تبقى تحت سيطرة قسد بما فيها حقول النفط والغاز وسيطرة على مدن كبرى مثل الحسكة والقامشلي والمالكية وغيرها. هل سوف تضحي قوات سوريا الديموقراطية بهذه المكاسب بمقابل الدخول في صراع ليس محسوم النتائج؟ هذا ما سوف نراه في الأيام القليلة القادمة إذا ما تمت العملية التركية.


يبقى أن على السوريين أن يواجهوا احتلالا آخر يضاف إلى احتلالات أخرى إيرانية وروسية وأمريكية، ويبقى أن البلاد تحولت إلى جمل طاح على مائدة القوى الإقليمية والدولية التي لا تتورع عن غرز سكاكينها للحصول على أكبر حصة ممكنة... لك الله يا سوريا.

* باحث في الفلسفة السياسية، خبير في قضايا الشرق الأوسط