-A +A
علي فايع
لا أظنّ أنّ ناقداً كالدكتور «عالي القرشي» كتب له العمر أن يستفيد من الحداثة وما دار حولها من هرج ومرج بحاجة اليوم للتنازل عن تلك المكاسب، ليقول لنا إنه كفر بالحداثة ذات زمن من أجل اللقب الأكاديمي.

كنتُ سألتمس (كقارئ ومتابع للمشهد الثقافي في السعودية) العذر للدكتور عالي القرشي لو أنّه انسحب من الساحة الأدبية والثقافية في وقتها، واكتفى بالوثيقة التي وقّع عليها في جامعة أم القرى، ولم يطارد وهج الحداثة وضوءها، صحيح أنه (كما قال) كان مغلوباً على أمره، وأمام أمرين لا مفرّ منهما: إما التبرؤ من الحداثة، وإمّا الحرمان من الدرجة العلمية («عكاظ»: 16/9/2019)!


لقد اختار الدكتور عالي القرشي الدرجة العلمية، فتبرأ من الحداثة، ورحّب بتوجه «الغيورين» كما قال لـ«عكاظ» تحت عنوان «عالي القرشي: تبرأت من الحداثة فمنحوني درجة الدكتوراه». بمهادنته مناهضي الحداثة الذين لم يتركوا تهمة على وجه الأرض إلاّ ألصقوها بالحداثيين، وفي مقدّمتهم الحداثيون السعوديون، وربما كان القرشي واحداً من هؤلاء المتهمين الذين قرّر أن يتبرأ منهم بجرّة قلم من أجل درجة أكاديمية. لقد ظنّ القرشي أنه انتصر للثقافة بهذه المهادنة!

أعلم أنّ القرشي قال هذا الكلام من باب التباهي بالمواقف، وتسجيل حضور ولو كان متأخراً بعض الشيء في مشهد ثقافي أوشك أن يموت بعد أن كانت مزيته الكبرى أنه صاخب، ومع ذلك سيقرأ اليوم العديد من الأدباء والمثقفين الموقف بأنه خذلان للمشهد الثقافي وليس انتصاراً له!

هذه المقالة أكتبها وربما أكون ممن تصدمهم بالفعل مثل هذه المواقف في تاريخنا الثقافي الذي يبدو أنه بحاجة لمحاكمة ثقافية جادة، فما نراه تنازلاً وانسحاباً وضعفاً، يراه غيرنا مجالاً رحباً للتباهي، ومادة قابلة للتداول والتفاخر، لأننا نملك مرونة كبيرة في اتخاذ المواقف وتطويعها، إذ يمكننا أن نكفر بالمبدأ ساعة الشدة، ونؤمن به ساعة الرخاء، والأمور ماشية!

لا يختلف الأمر بالنسبة لي بين ناقم على الحداثة اختار أن يعيش معادياً لها، ولكنه مع تحولات الزمن اختار الانتصار لها، والتراجع عن بعض ظنونه ولو لم يكن مؤمناً بهذا التراجع إيماناً كاملاً، وبين راغب فيها، لكنه اختار أن يقف ضدها لأنه كان يريد أن يعيش!

لقد كنت واحداً من كثيرين آمنوا بالحداثة الشعرية والأدبية، وحفيت أقدامنا ونحن نركض باتجاه النقاد والكتّاب والمبدعين، فلم يكن لنا من عمل سوى الانتصار لتجربة شعرية فريدة في السعودية أخرجت لنا من بطنها شاعراً جميلاً وموهوباً كـ«محمد الثبيتي»، وناقداً شجاعاً وجريئاً كـ«سعيد السريحي»، وكتّاب قصّة لم يكفروا بالإبداع، ولكنهم آمنوا بأنّ الكتابة تجربة، وأنّ الزمن كفيل بإنصافها وإنصافهم ولو بعد حين!

هكذا أظن أنّ من يؤمن بشيء لا يكفر به، وإن كان ثمنه شهادة أكاديمية.

alma3e@