-A +A
نجيب يماني
التاريخ مدرسة الأجيال، يتعلّم فيها الأحياء ما ينفعهم فيعملونه، وما يضرّهم فيجتنبونه.. والتاريخ هو الجسر الذي يصل ماضي كل أمة بحاضرها، وبقدر العناية به وبتدوينه تستطيع الأمم أن تبني حياتها على أسس متينة وثابتة..

والحياة كلها بدروبها الطويلة المتعاقبة.. ليست إلاّ تاريخاً.. والساعة التي تعيشها هي حاضرك.. لكنها ستكون بعد مرورها جزءاً من تاريخك.. تشهد لك أو عليك..


وفائدة التاريخ تعني أن نعترف أن لقاء الأجيال المتعاقبة مع التاريخ ليس لغرض إرجاعه أو تغييره، بل لكي تبني واقعها على ما طُوي من أحداث.. تلتقي بالأمجاد والمفاخر وجلائل الأعمال.. فتشد نفسها إلى أجوائها المتألّقة.. لتجعل منها حلقة راسخة في القافلة المنطلقة الهادفة وتلتقي الأجيال الناشئة بالسيئ من الأحداث، والمؤلم من الوقائع، فتأخذ نفسها عن سبيلها وتحجزها عن الطرق المؤدية إليها.. تلك هي فائدة التاريخ التي ندونها بحروف من ذهب في هذا العهد المبارك.

وحتّى ندرك مدى شموخ البناء والجهد الكبير الذي بذلته الأسرة السعودية من أجل إرساء قواعده.. لا بد لنا من وقفة تأمل أمام الأوضاع التي كانت سائدة في المنطقة ومقارنتها بما وصلت إليه اليوم...

عودة إلى الوراء... إلى الصراعات المريرة التي عاشتها الجزيرة العربية حتّى يوم جاء البطل عبدالعزيز آل سعود، فأقام الدولة الواحدة التي أرست هذا البناء الشامخ بالحب والعدل وشريعة الله، فالمملكة العربية السعودية لم تُولد فجأة، ومن غير تراث، وعلى غير مثال.. فهي جديدة.. قديمة.. جديدة باسمها وتنظيمها الحكومي ونهضتها الحديثة.. ولكنها قديمة بتاريخها معرقة بأمجادها وجذورها تمتد إلى أعماق التاريخ.

واليوم يحق لنا أن نملأ أسماع الدنيا ونشنف آذان العالم بما تحقّق لنا خلال هذه الحقبة الزمنية من عمرنا.. بعد الصراعات المريرة التي عاشتها هذه الجزيرة وغياب الأمن والأمان. وترويع للأنفس ونهب للأموال والخيرات.

ودار الزمن دورته وأراد الله الخير بهذه الجزيرة وأهلها فجاء البطل عبدالعزيز آل سعود فأقام الدولة الواحدة وأرسى قواعدها بالحب والعدل وشريعة الله، وكلّل الله جهوده بالنصر المؤزر، معلناً أن شريعة الله وهدي نبيّه الكريم هي إطار حياتنا ومدار نشاطنا وحدود ما نفعل وما نقول ونعمل.

وبتوجيهات موحّد هذا الكيان إلى أبنائه البررة الذين حملوا مشاعل الخير من بعده وهذه المملكة تعيش حقيقة واقعية ذات وجه واحد لا يضرّها من أغمض قلبه عنها كما لا يضير الشمس من لم يبصر وهجها... متمثلة في (النهضة الشاملة) التي لا تقتصر دوائرها على الماديات فقط وإنما تتسع باتساع آفاق هذه الأسرة الكريمة لتشمل التوجيهات السياسية بأبعادها القومية والوطنية والدولية بمنظور حكيم لقضاياها وقضايا الآخرين.

فالمؤسس -رحمه الله وأولاده الكرام من بعده- وضعوا نصب أعينهم هذه (النهضة) وأعطوها حقها كاملاً، فبكل المقاييس تُعتبر هذه النهضة تحدّياً لعوامل عديدة تأتي في مقدمتها العوامل الجغرافية والبيئية، فهذه الجزيرة بامتدادها شُكّلت معظم أراضيها من رمال صحراوية غير قادرة على العطاء والإعداد بعناصر الحياة، فكان من المستحيل قهر هذه الصحراء وتحويلها إلى مدن عصرية متطوّرة ذكية فيها كل عناصر الحياة والاستمرار، كما لم تنس القيادة الحكيمة (الإنسان) فقد آمنت ووقر إيمانها بأن الإنسان يظل الركيزة الأساسية واللبنة الأولى والعامود الفقري الذي بدونه تفقد هذه النهضة مضامينها وينعدم التطوّر والازدهار.

فأخذت بيده وجعلته في غرة خططها ودائرة اهتمامها لتجعل منه عاملا أساسيا ومؤثّرا وقويا وبنّاء في عملية التنمية ونهضة المملكة وتطوّرها الحضاري والتاريخي. فوظّفت الثروة والإنسان التوظيف الأمثل في بناء نسيج هذه النهضة لتتحقّق في أعمار زمنية قصيرة الكثير من الشواهد العالية مما اعتُبر سباقاً مع الزمن فازت به هذه الأرض وإنسانها.

في ذكرى اليوم الوطني يجب أن نعرف جيّداً أن الإطار الجميل الذي وضعه راعي نهضتنا الحديثة بل مقاييسها قد تضمّن المضمون والجوهر اللذين يشكّلان معاً أسس البناء لغد مشرق ومستقبل أفضل، فهذه الإنجازات المتتابعة التي تتحقّق كل يوم لتحقيق معدّل مرتفع للنمو الاقتصادي وزيادة الرفاهية لجميع فئات المجتمع في إطار من القيم الدينية والأخلاقية المستوحاة من شريعتنا الإسلامية السمحة، مؤمنة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..}. في توازن بين الجوانب الخلقية والبدنية والنفسية والاجتماعية من أجل تنمية طاقاتهم وقدراتهم الخلاّقة، إيماناً بدورهم في الإسهام والنهوض بهذا المجتمع، واستطاعت هذه القيادة وأبناؤها من خلفها الإمساك بناصية التطوّر لتمنحه السهل والجبل والقرية والمدينة، هذا التطوّر كان وليد تخطيط علمي مدروس كان ولم يزل هو القاعدة التي تسير عليها هذه المملكة ولا تزال في طريق العلم والمعرفة، رافعة راية التوحيد لتخفق في كل ركن من أركان هذه المملكة الفتية، وها هي معالم القدرة على التطوّر تبرز من خلال كل منشأة ووزارة مثبتة للعالم أجمع بأننا قادرون على رسم الصورة المشرقة وإظهارها بالمظهر الذي يروق ويشرّف.

وفي مناسبة التوحيد والبناء لا بد أن نقف إجلالاً واحتراماً لهذه الشخصية الفذّة التي استطاعت أن توحّد هذه الجزيرة وتجعلها بنياناً واحداً وكياناً متوحّداً، مؤصّلة في نفوس أبنائه الأمن والأمان وحب الاستقرار. ويحق لنا نحن أبناء هذا الجيل؛ جيل محمد بن سلمان، أن نحمد الله ونشكره على ما تحقّق على يدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده محمد الخير -حفظهما الله- حتّى تحقّق لنا ما أراد الله من مكتسبات. توجها هذا العهد الزاهر بأن جعل للإنسان قيمة ومقدارا، وجعل للحياة طعما ومذاقا بجودة مختومة بتوقيع محمد بن سلمان.

في تجربة حية وقفت بنفسي عليها، مجموعة من منسوبي مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث (مؤسسة عامة) – جدة وقفوا جميعاً تحت وهج الشمس يمسحون عرقهم بيد وباليد الأخرى يزرعون حديقة المستشفى باسم اليوم الوطني وشعاره الجميل لهذا العام (همة حتى القمة). رأيت الفرحة تشع في عيونهم. خلعوا معاطف الطب واستبدلوها بملابس العمل، ترافقهم مجموعة من المتطوعين في المستشفى، تقودهم الزميلة الناشطة لمياء محمد خان. يعملون كفريق واحد يدفعه حب هذا الكيان العظيم والإخلاص له. يرددون سنصل للقمة بإذن الله. آيات الشكر والامتنان لقائد هذا الكيان الذي أخذ بيد المرأة ومكنها من مفاصل الوطن لتعمل وتكون ترسا فعالا في عملية التشييد والبناء. فرحة كبرى يعيشها الجميع دون خوف أو نكد، فالكل يعمل على سجيته بعيداً عن الهواجس والخوف الذي ذهب ولن يعود بإذن الله.

* كاتب سعودي