-A +A
صدقة يحيى فاضل
تمر على العالم في كل مرحلة إمبراطوريات (دول عظمى) تفرض نفسها، وتفرض سياساتها وتوجهاتها على المجتمع الدولي، للمدى الذي تسمح به إمكاناتها وقوتها، وتترك بصماتها ولمساتها الدائمة على خارطة العالم، حتى بعد أفولها. وغالباً ما تنهار هذه الإمبراطوريات بعد فترة تطول أو تقصر. وبريطانيا كانت هي الدولة العظمى الأولى، منذ القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945. وقد استعمرت جزءاً كبيراً من العالم، بما في ذلك معظم العالم العربي، وبسطت سيطرتها عليه لأكثر من قرن من الزمن. بدأت هذه الإمبراطورية تتكون في القرن السادس عشر، ولكنها برزت في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي. واعتبرت، في ذروتها، أضخم إمبراطورية مساحةً في تاريخ العالم حتى الآن.

حتى سنة 1913، بسطت سلطتها على حوالى 500 مليون نسمة، يمثلون، آنئذ، حوالى ربع سكان العالم. وسيطرت على مساحة 35000000 كم2، أي ما يعادل 24% من كامل مساحة الكرة الأرضية. ولاتساعها الهائل، وصفت بأنها: «الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس»، كنايةً عن تمددها في كل قارات العالم. وبالإضافة إلى سيطرتها على مستعمراتها، فإنها هيمنت على اقتصاد العالم، وسيطرت على التجارة الدولية ردحاً من الزمن.


ورغم خروجها منتصرة في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها أُنهكت وضعفت بعد تلك الحرب. وتفاقم ضعفها بعد استقلال مستعمراتها، وخاصة بعد تمكن الهند، «درة التاج البريطاني» – كما كانت توصف، من الاستقلال عام 1947، وصعود أمريكا والاتحاد السوفييتي كدولتين عظميين. واضطرت بريطانيا لمنح الاستقلال لبقية مستعمراتها والانسحاب. واعتبر المراقبون تسليم «هونج كونج» إلى الصين، سنة 1997، النهاية الأخيرة للإمبراطورية البريطانية. ولا تزال هناك 14 منطقة عبر البحار تحت السيطرة البريطانية، وما زالت المملكة المتحدة إحدى الدول الكبرى.

****

وقد كانت العلاقات العربية – البريطانية وما زالت لها الأثر الكبير في الوضع السياسي – الاقتصادي، والواقع الإستراتيجي لأغلب العرب، منذ بداية القرن التاسع عشر، وحتى الآن. ويضاف إلى بريطانيا الدول الكبرى الأخرى التي سادت في هذه الفترة وما بعدها، وفي مقدمتها فرنسا وإيطاليا، ثم أمريكا. هذه الدول ساهمت – بشكل مباشر وغير مباشر – في ما العرب فيه وعليه، وما آل إليه وضعهم الراهن. لذلك، فإن الحديث عن العلاقات العربية – البريطانية، ذو شؤون وشجون، وقد لا تغطيه إلا المجلدات الضخمة. وما يتطرق له هذا المقال هو مجرد إشارة لبعض ملامح وتداعيات هذه العلاقات التاريخية الشائكة.

هل أحسنت بريطانيا تجاه العرب، أم أساءت لهم؟! وهل المحصلة النهائية لهذه العلاقات إيجابية، أم سلبية؟! سؤال كبير، تتطلب الإجابة عليه، بموضوعية وشمول، الكثير من البحث والدراسة والتقصي. لن نحاول هنا، بالطبع، أن نجيب على هذا التساؤل، وإنما سنلقي فقط بعض الضوء على ما يلاحظ من «مشاعر عربية معادية» لبريطانيا لدى بعض المثقفين والمتعلمين العرب (بسبب سجلها «الاستعماري» ببلادهم)، لوحظت مؤخراً، وسجلت في كثير من المؤتمرات والندوات واللقاءات الفكرية العربية عن حاضر العرب، ومستقبلهم السياسي بخاصة.

****

لا بد أن تقيم الدول علاقات دبلوماسية مع أكبر عدد ممكن من الدول الأخرى، وخاصة الكبرى، وذلك لترابط المصالح فيما بين دول العالم. إذ تملي السياسة والدبلوماسية وأصول العلاقات الدولية، وجوب العلاقة والمجاملة، خاصة فيما بين الدول التي ترتبط ببعضها بعلاقات نفعية وثيقة. هذا على المستوى الرسمي. أما على المستوى الشعبي (الأفراد، الجماعات) فالأمر مختلف. هناك أفراد وشخصيات وجماعات لهم رأيهم المختلف تجاه سياسات حكومة هذه الدولة، أو تلك، بصرف النظر عن طبيعة العلاقات الرسمية التي تربط دولهم بهذه الدولة أو تلك. وهذا أمر طبيعي، يوجد في كل البلاد وجميع الدول، وإن كان أقل حدة في الدول الديمقراطية. هناك، على سبيل المثال، البريطاني الذي يزدري أمريكا ويرفض سياساتها، رغم ما يربط بلاده بأمريكا من علاقات وطيدة وتحالف قوي وثيق. وهناك البيلاروسي الذي يكره سياسات روسيا، رغم قوة العلاقات والروابط الرسمية بين حكومتي البلدين. وهناك الكوري الجنوبي الذي يشجب سياسات حكومة اليابان التي ترتبط الآن بعلاقات حميمة مع حكومة كوريا الجنوبية.

وقس على ذلك وجود مثقفين عرباً أفراداً وجماعات يكرهون بريطانيا، ولا يقرون سياساتها الماضية والحالية نحو العرب بخاصة، رغم ما يربط بين بريطانيا وأغلب دولهم العربية من روابط رسمية قوية. نعم، لا يوجد في السياسة حب، أو كراهية... توجد «مصالح» معينة لكل طرف. وهناك مثل شعبي يقول: «أحبك يا نافعي... وأكرهك يا مضري». وهذه الفئة الرفيعة من العرب تعتقد جازمة أن بريطانيا، أو المملكة المتحدة، كانت – وما زالت – أكبر القوى الدولية المعاصرة التي أضرت بـ «المصالح» القومية العربية، في المدى الطويل. وهذا الأذى فاق – في رأيهم – أذى القوى الدولية السابقة واللاحقة...؟!

ويورد هؤلاء «أدلة» كثيرة، من أهمها: ظهور سوءات بريطانيا وأضرارها الكبيرة، وحتى مزاياها، بعد رحيلها، واستقلال البلاد العربية التي كانت ترزح تحت الاستعمار البريطاني. فقد خلفت «تركة» لعلها – في رأيهم – من أسوأ ما خلفته هذه الإمبراطورية. إذ قسمت الوطن العربي، بالتعاون مع فرنسا وغيرها، إلى دول ضعيفة ودويلات، وعملت جهدها على تكريس مبدأ «فرِّق... تسد»، بدق إسفين فيما بين هذه الدول، حتى لا تتحد لاحقاً اتحاداً حقيقياً. كما زرعت في بعضها نظماً تعمل على تخلفها، أكثر من تقدمها. وتوجت عداءها المشهود للشعوب العربية والمسلمة بإقامة الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية. وبعد ذلك، سلمت الراية الإمبريالية لبريطانيا الجديدة المسماة «الولايات المتحدة الأمريكية»، لتكمل ما بنته وأقامته.

****

ما ذكرناه هي آراء و«مشاعر» عربية لها أساس كبير من الصحة. ولا بد من احترامها، والحوار البناء بشأنها، بما يؤدي لعلاقات عربية – بريطانية أفضل للجانبين مستقبلاً. ولا يوجد قانون «يحرم» هذه المشاعر، أو «يجرم» حامليها، طالما بقيت كمشاعر خاصة. ومن الطبيعي أن يكون للمثقفين والمتعلمين العرب «رد فعل» تجاه بريطانيا، بعد كل هذا التفاعل الطويل بين العرب والإنجليز.

ولا شك، أن جوهر هذه المشاعر هو الامتعاض والعداء. بدليل تعبير بعض المثقفين عن الفرح بما يصيب بريطانيا من هزَّات، وما يواجهها من صعوبات. من ذلك، تشفِّي البعض بما تمر به بريطانيا الآن من أزمة سياسية خانقة، بسبب اعتزامها الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) بعد أن كانت قد التحقت عام 1973 به بشق الأنفس. كما لم يتردد بعض أولئك في الإعلان عن أملهم في تفكك المملكة البريطانية المتحدة نفسها إلى أربع دول، على الأقل، هي: إنجلترا، ويلز، سكوتلاند، آيرلندا الشمالية. ومعروف أن كامل مساحة بريطانيا لا يتعدى 244104 كم2، عدا مساحة المناطق التابعة. أي ما يعادل مساحة غانا (238537 كم2). ورغم صغر هذه الرقعة من الأرض إلا أنها حكمت العالم لأكثر من قرن. ولكنها الآن تضم أربع قوميات، قابلة للتنافر والتفكك. سبحان مغير الأحوال.

* كاتب سعودي

sfadil50@hotmail.com