-A +A
عبدالعزيز الوذناني
تقدم الأمم وتطورها لا يأتي بين يوم وليلة، بل هو نتاج عقود من الاستثمار المخطط والمدروس في الإنسان الذي هو جوهر التنمية الشاملة بمفهومها الواسع وعمود سنامها، فليس هناك استثمار في الإنسان أهم من التعليم بشقيه التعليم العام والتعليم الجامعي. القارئ لتاريخ التنمية البشرية على مر العصور يدرك ان المعرفة والخبرة التراكمية هي الأساس الذي تبني عليه الأمم تقدمها وتطورها وصناعة تنميتها المستدامة.

فالإنسان هو الأساس في اكتساب المعرفة والخبرة البشرية التي تتراكم عبر الزمن، حيث يتعلم الإنسان من تجاربه وخبراته السابقة ويطور مهاراته ومعارفه ويصقلها بتجاربه العملية، فكلما زادت خبرته في أي مجال من المجالات يصبح أكثر مهارة وإتقانا حتى يصل إلى مرتبة ما يعرف «بالخبير» في مجاله. تشير التجارب والأبحاث العلمية إلى أن الإنسان يحتاج إلى عشرة آلاف ساعة من العمل الدؤوب والمركز لكي يصبح خبيراً في مجاله ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن الشعوب.


العالم المتقدم أدرك هذه الحقيقة فركزوا على بناء الإنسان وهيأوا له سُبل ووسائل النجاح. هذه هي «الوصفة» التي نحتاج إلى إتقانها، ومن وجهة نظري هذا ما يجب أن تُركز عليه جهود إصلاح التعليم وجهود برنامج تنمية الموارد البشرية. لكي نكون أكثر دقة: إصلاح التعليم لوحده لا يكفي بل يجب إصلاح سوق العمل وترشيد الدعم الحكومي بما يحقق استراتيجية بناء الإنسان «السعودي» المؤهل بالتعليم النوعي وتمكينه من مفاصل الاقتصاد والقرار الوطني لكي يكتسب الخبرة التراكمية، فالتعليم النوعي والخبرة التراكمية هما الأساس في بناء رأس المال البشري.

بحكم قربي من التعليم الجامعي وخاصة الجامعات الأهلية المميزة سوف أركز في هذا المقال على أهمية دور هذه الجامعات في تأسيس وتطوير التعليم النوعي والبحث العلمي في المملكة والمساهمة الفاعلة في صناعة رأس المال البشري وبناء الكوادر الوطنية المدربة وتشجيع ثقافة التنافس ليس بين جامعاتنا الوطنية فحسب بل بين الكفاءات التي تزخر بهم جامعاتنا ولله الحمد ودفع جامعاتنا إلى مجال أرحب من التنافس والإبداع وإطلاق العنان للعقل البشري والطموح الذي لا حدود له.

الحق يُقال تعليمنا الجامعي من أفضل أنظمة التعليم في المنطقة. هذه ليست شهادتي فحسب بل شهادة المنظمات الدولية التي تقيس جودة التعليم الجامعي وتنشر تقاريرها السنوية والتي تحتل فيها عدد من الجامعات السعودية المراكز الأولى على مستوى المنطقة. قد يقول: البعض هذه المقارنة غير عادلة، فليس هناك مجال للمقارنة بين المملكة التي حباها الله عز وجل بطاقات بشرية وموارد مالية هائلة مع دول المنطقة التي يعاني معظمها من شح الموارد المالية والفساد والفقر والحكم غير الرشيد. أتفق مع هذا الرأي، فالمملكة وهبها الله من الموارد ما يمكنها من أن تكون في مصاف الدول المتقدمة وسبيلنا لذلك هو الاستثمار في أبنائنا وتمكينهم وليس هناك استثمار في الإنسان أفضل من التعليم وأقصد هنا التعليم النوعي على وجه الخصوص، فنحن وصلنا إلى مرحلة الإكتفاء من التعليم الكمي ولله الحمد وتعليمنا في هذا الجانب يتصدر أنظمة التعليم في المنطقة مثلما ذكرت سابقاً، ولكن لكي ننتقل إلى مستوى أكثر كفاءة وإنتاجية وتنافسية، فيجب علينا الاستثمار في التعليم النوعي فهو مستقبل هذه الأرض الطيبة ومستقبل أبنائها وهو خيارنا الإستراتيجي الذي ليس لنا خيار غيره إذا ما أردنا الارتقاء بهذه البلاد المباركة إلى مكانتها الطبيعية بين الأمم.

لكي نضع هذه المسألة في سياقها التاريخي ونفهم الصعوبات التي واجهت ولا زالت تواجه التعليم العالي بالمملكة وتعطل تطوير التعليم النوعي والبحث العلمي وتعطل بناء رأس المال البشري المزود بالمعرفة النوعية والخبرة التراكمية، فيجب علينا التوقف عند نظام الجامعات القديم (الحالي) الذي صدر قبل حوالى 25 عاماً وكذلك عند سوق العمل، فالتعليم النوعي والخبرة التراكمية ضرورة لبناء رأس المال البشري الوطني والأخيرة لن تتحقق إلا بإصلاح سوق العمل وتمكين أبنائنا من مفاصل القرار في الاقتصاد الوطني وسبق وكتبت عن هذا الكثير في جريدة عكاظ الغراء يمكن الرجوع إليه.

كان الهدف من نظام التعليم العالي في ذلك الوقت هو نشر التعليم الكمي، ولم يكن التعليم النوعي والبحث العلمي أولوية للجامعات أو حتى لمجلس التعليم العالي، حيث يركز نظام التعليم الحالي على توحيد نظام الجامعات فيما يخص الرواتب والمزايا والمكافآت المالية والترقيات المتعلقة بأعضاء هيئة التدريس، وهنا تكمن بذرة «الداء» التي من وجهة نظري تسببت في تعطيل تطور التعليم النوعي والبحث العلمي وجعلت الجامعات تنكفئ على نفسها وتتراجع عن لعب دورها المفترض في قيادة التطور في المجتمع وبناء تنميته الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية المستدامة. العنصر الأساسي والأهم في الجامعات هم أساتذة الجامعات، والجامعات هي الحاضن الطبيعي لتطوير التعليم النوعي والبحث العلمي وهي اللبنات الأولى لبناء رأس المال البشري الوطني ولكن نظام الجامعات الحالي لم يساعد الجامعات على استقطاب الكفاءات الأكاديمية المميزة وتهيئة البيئة الضرورية لنجاحها وتفوقها وسبق كتبت عن هذا مقالا مطولا في صحيفة عكاظ الغراء يمكن الرجوع إليه.

اليوم نحتاج إلى تعليم نوعي، ونحتاج إلى جامعات تولي التعليم النوعي والبحث العلمي أولوية وتساهم في بناء رأس المال البشري الوطني وقيادة عملية التطور في المجتمع ودفع المعرفة الإنسانية إلى أفق أبعد وأرحب، وتساهم في تكوين المعرفة والخبرة التراكمية المجتمعية التي هي العمود الفقري لرأس المال البشري وتخرج جيلا جديدا من القادة المبدعين ورجال الأعمال والمختصين المزودين بالمهارات الضرورية لنقل الاقتصاد الوطني إلى مستوى أعلى من النمو والكفاءة والإنتاجية والتنافسية. للإنصاف خلال السنوات العشر الماضية ظهرت بعض المحاولات المباركة لتأسيس ما يعرف بالتعليم الجامعي النوعي وخاصة من قبل بعض الجامعات الأهلية المميزة مثل جامعة الفيصل وجامعة اليمامة وجامعة الأمير سلطان وجامعة عفت، على سبيل المثال وليس الحصر. هذه الجامعات الأهلية رغم حداثة عهدها ساهمت مع أخواتها الجامعات الحكومية الكبيرة في دفع عجلة التعليم العالي في المملكة إلى الأمام وخاصة التعليم الجامعي النوعي.

لا يخفى على الجميع بأن التعليم النوعي يتطلب استثمارات كبيرة سواء أكانت في البنية التحتية أو في استقطاب الكفاءات النوعية من أعضاء هيئة التدريس والاحتفاظ بها. هذه الاستثمارات الضرورية للتعليم النوعي ترفع تكلفة الجامعات الأهلية وهذا بدوره ينعكس على رسومها الدراسية. على الرغم من ارتفاع تكاليفها، فإن هذه الجامعات النوعية وانطلاقاً من مسئوليتها الاجتماعية وإيماناً منها بأن التعليم النوعي هو مستقبل هذه الأرض الطيبة ومستقبل أبنائها تقوم هذه الجامعات بتوفير بعض المنح الدراسية للطلبة المتفوقين من أبناء الأسر التي لا تستطيع تحمل الرسوم الدراسية.

الجامعات الأهلية المميزة روافد مهمة من روافد صناعة التعليم النوعي وبناء رأس المال البشري الوطني ودعمها وتشجيعها وحمايتها من المنافسة غير العادلة ضرورة لكي تستمر في دفع عجلة تطوير البيئة التعليمية الجامعية الفاعلة والمميزة. دعم هذه الجامعات له عدة صور ولكن في الجزء المتبقي من هذا المقال أود التركيز على نقطتين أساسيتين وهما: استئناف برنامج البعثات الداخلية الخاص بالطلبة المتفوقين لهذه الجامعات وحمايتها من المنافسة غير العادلة من قبل بعض الجامعات الحكومية التي تطرح برامج دراسية وخاصة في مرحلة الماجستير برسوم مخفضة لا تستطيع معها الجامعات الأهلية المنافسة بحكم تكاليفها العالية.

برنامج تنمية الموارد البشرية

المهتمون بالتعليم النوعي وتنمية رأس المال البشري استبشروا خيراً ببرنامج تنمية الموارد البشرية وأسعدهم أكثر تبني وزارة التعليم لهذه المبادرة والاهتمام بها ورعايتها وهذا ليس بغريب علي قيادات وزارة التعليم وعلى رأسهم معالي الوزير. من خلال برنامج تنمية الموارد البشرية، أتمنى على وزارة التعليم تبني دعم الجامعات الأهلية النوعية بحيث يكون هذا الدعم مرتبطا بجودة ونوعية التعليم في هذه المؤسسات التعليمية مما يكفل تطوير وتنمية التعليم الجامعي النوعي وتنمية رأس المال البشري الوطني. هذا الدعم المقترح ممكن تلخيصه في النقطتين الرئيسيتين التاليتين:

أولاً: استئناف البعثات الداخلية للطلبة المتفوقين للجامعات الأهلية المميزة بحيث يكون عدد البعثات المخصصة لكل جامعة مرتبطا بجودة البرامج التعليمية في هذه الجامعة وخططها المستقبلية للارتقاء بجودة العملية التعليمية مع وضع آلية ومعايير لتحقيق هذا الهدف وضمان عدم انحرافه عن مساره وأهدافة الأساسية في المستقبل.

ثانياً: تشجيع الوزارات والهيئات الحكومية على ابتعاث منسوبيها وخاصة لدراسة درجة الماجستير لهذه الجامعات الأهلية المميزة من خلال اتفاقيات وبرامج تحكم هذا الدعم وتضمن استمراريته وخاصة في مراحل البناء والتأسيس حتى يقوى عود هذه الجامعات الفتية وتبلغ أشدها.

الحماية من المنافسة غير العادلة

في الآونة الأخيرة بدأت بعض الجامعات الحكومية، إن لم تكن جلها، بعرض برامج برسوم مُخفضة وخاصة في مرحلة دراسة الماجستير. يبدو للمراقب أن الهدف من السماح لهذه الجامعات الحكومية بتقديم مثل هذه البرامج «مالي» في محاولة لإيجاد مصادر دخل للجامعات من خارج ميزانية الدولة التقليدية. أعتقد أن هذه الخطوة لم تُعط حقها من الدراسة والتمحيص للوقوف على آثارها السلبية المحتملة على تطور التعليم النوعي وخاصة في الجامعات الأهلية المميزة التي نعول عليها الكثير لقيادة دفة تطوير التعليم الجامعي النوعي وتنمية رأس المال البشري الوطني.

من وجهة نظري، هذه البرامج لن تضيف لميزانية الجامعات الحكومية شيئا يذكر ولكن تأثيرها على تطور التعليم الجامعي النوعي وخاصة في الجامعات الأهلية المميزة سيكون كبيرا لسببين رئيسيين وهما:

أولاً: الرسوم المُخفضة لهذه البرامج ربما لا تتجاوز تغطية مكافآت أعضاء هيئة التدريس الذين يشاركون في هذه البرامج، وربما الحافز المادي هو السبب الرئيسي وراء تسابق الجامعات الحكومية على طرح وتسويق مثل هذه البرامج.

ثانياً: فتح المجال للجامعات الحكومية لعرض مثل هذه البرامج ربما سيكون له تأثير سلبي على جودة برامجها التعليمية وجودة مخرجاتها حيث التوسع في طرح مثل هذه البرامج سيزيد من تركم أعداد الطلبة ويضع ضغوطا إضافية على أعضاء هيئة التدريس للمشاركة في هذه البرامج بدلاً من استثمار وقتهم وطاقاتهم وخبراتهم في مهامهم الأكاديمية الأساسية ولهذه الأسباب مجتمعة ربما مثل هذه البرامج أو التوسع في طرحها لن يخدم جودة العملية التعليمية ولن يخدم الارتقاء بالإنتاج البحثي وجودة البحوث العلمية.

ثالثاً: السماح للجامعات الحكومية التي تتكفل الدولة أعزها الله بتكاليفها الرأسمالية والتشغيلية بما فيها رواتب ومكافآت أعضاء هيئة التدريس بعرض مثل هذه يالبرامج ربما يؤدي إلى إخراج الجامعات الأهلية النوعية من السوق وتعطيل تطور صناعة التعليم الجامعي النوعي في المملكة التي لا زالت في بداياتها لأن التكاليف الرأسمالية والتشغيلية لهذه الجامعات عالية ولن تمكنها من البقاء والمنافسة في ظل المنافسة غير العادلة. لا أحد يطالب بإلغاء هذه البرامج ولكن يجب ان تعطى الجامعات الأهلية النوعية فرصة للمنافسة العادلة. الاستمرار في هذه البرامج والتوسع في طرحها ربما سيؤدي إلى ما يعرف بالسباق إلى الهاوية (Race to the Bottom) وهذا في النهاية سيؤدي إلى خروج الجامعات الأهلية الجيدة من المنافسة ولن يبقى في دائرة السباق على المدى الطويل إلا ما يعرف بجامعات «الخشاش» وهذا سيضر بالعملية التعليمية وبتطور ونمو التعليم النوعي وتنمية رأس المال البشري والوطني وفي النهاية سندفع ثمنه جميعاً سواء أكان على مستوى التعليم الجامعي أو على مستوى الاقتصاد الوطني.

انا على يقين بأن قيادات التعليم وعلى رأسهم معالي الوزير حريصون على تطوير التعليم الجامعي النوعي وحريصون على دعم الجامعات الأهلية المميزة، فهذه الجامعات تستحق الرعاية والتشجيع والحماية لكي تكون رافداً من روافد التعليم العالي النوعي في المملكة في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين التي تولي التعليم الاهتمام والرعاية والدعم اللامحدود وكذلك ستساهم مع أخواتها الجامعات الحكومية العريقة في تحقيق رؤية المملكة 2030 من خلال الارتقاء بالتعليم الجامعي النوعي وتنمية رأس المال الوطني المسلح بالتعليم الجيد والخبرة التراكمية الضرورية لنقل الاقتصاد الوطني إلى مستوى أعلى وأرحب من النمو والكفاءة والإنتاجية والتنافسية على المستوى الإقليمي والعالمي بمشيئة الله عزوجل والله من وراء القصد.

* عميد كلية إدارة الأعمال والعميد المكلف للدراسات العليا والبحث العلمي جامعة اليمامة - الرياض

@Dr_alwathnani