-A +A
صدقة يحيى فاضل
يمدنا علم السياسة والعلاقات الدولية بكل ما قد نحتاج إليه من «أدوات» تحليلية تساعد على تفسير وشرح الظواهر السياسية، التي تشغل الدنيا وتهم الناس. ونظريات ومفاهيم وأطر هذا العلم الاجتماعي تحاول شرح وتوضيح «ما هو كائن»، من هذه الظواهر والأحوال والأحداث السياسية، الساخنة والباردة، المتعلقة بالدول. وفهم ذلك، يمكّن من التدخل للتأثير في سير وتطور هذه الظواهر المستقبلي، بما يخدم مصالح المعنيين، وربما يمكّن من توضيح وتحديد أفضل «ما يجب أن يكون»، ولو في الفكر وعلى الورق.

ومن الأمور التي يقدم علم السياسة توضيحا لها ما يعرف بـ«التصفير» (Minimization to Zero)... أي التقليل من أمر معين، لأقصى درجة ممكنة، أو حتى انعدامه. ومن ذلك: عملية «تصفير المشاكل الدولية»، والتي تعني للطرف الدولي الذي يقوم بها: إسباغ وإرساء السلم على علاقاته مع دول بعينها (غالبا ما تكون دولا مجاورة) ومحاولة تحسين وتطوير هذه العلاقات، خدمة ودعما للمصالح المشتركة، ولمواجهة الأخطار المشتركة... بما يصون السلام المحلي والإقليمي وحتى العالمي، ويجعل علاقات هذا الطرف مع الدول المستهدفة علاقات يسود فيها وعليها التعاون على الصراع والخلاف، وبحيث تخفف درجة الصراع (والخلافات) لأقل حد ممكن.


****

وفي الواقع، يمكن ضغط العلاقات (السياسية) الدولية، في ظاهرتين (متناقضتين) رئيسيتين فقط، هما: التعاون (السلام) والصراع (الحرب) وما بينهما. وهناك ـ بالطبع ـ مستويات متعددة مختلفة، للتعاون... فهو يبدأ من الإشادة والاتصالات الودية بين المسؤولين الحكوميين، ويتصاعد، ليصل إلى درجة التحالف، وربما «الاتحاد»، بين الأطراف المعنية. كذلك الصراع... قد يبدأ من تبادل العبارات غير الودية... ليصل إلى درجة النزاع، والتلاسن والاتهامات المتبادلة، والحروب.

ويمكن القول، إن علاقة أية دولة بأخرى، في أي وقت معين، تحتــوي على عناصر من الظاهرتين... التعاون والصراع. وقد يغلب التعاون على العلاقة، وقد يغلب الصراع. ومن النادر أن لا ترتبط كل دولة من دول العالم بعلاقات مع غيرهــــــا، من الــــــدول الأخــرى، وخاصة في العصر الحــالي... حيث سهل الاتصال والمواصلات، بما جعل العالم الآن، عبارة عن «قرية كبيرة واحدة» - كما يقال. وأصبح كل جزء من العالم يعتمد على الآخر... في عـصــــر «الاعتماد المتبادل» (Interdependence) والعولمة الشاملة بحق.

****

وبالطبع، يكون التعاون غالباً على حساب الصراع... والعكس صحيح. إذن، وبالإضافة إلى سمة «الفوضى»، التي تميز العلاقات الدولية، كما هو معروف، تتميز العلاقات بين دولتين أو أكثر، في أي وقت، بتأرجحها دائما بين ظاهرتي: التعاون والصراع. هذا، ويمكن، بالاستعانة ببعض المعادلات الرياضية، تمثيل تلك العلاقات حسابياً، في وقت معين. للتمكن من القول (التحديد) بأن (مثلاً) العلاقات بين دولتين معينتين، خلال فترة ما معينة، يسودها التعاون، بنسبة كذا، والصراع بنسبة (أو درجة) كذا (نسبة مئوية). فإذا كان التعاون (أو احتمال التعاون) يسود بدرجة 70% (مثلاً) فلا بد، إذن، أن يكون الصراع (أو احتمال الصراع بينهما) قائماً بنسبة 30% تقريبا، وهكذا. كما يمكن تمثيل ذلك بيانيا.

والواقع، أن العلاقات الدولية متغيرة دائماً... وتتميز بسيادة مصالح أطرافها وتقديم تلك المصالح، على كل ما عداها. يقول السياسي البريطاني الشهير «ونستون تشرشل»: «ليس هناك صداقة دائمة... أو عداء دائم... هناك مصالح دائمة»... واصفاً واقع وطبيعة العلاقات السياسية الدولية. بمعنى أن وجود درجة معينة من التعاون، بين طرفين من أطراف العـــلاقـــات الدولية، في وقت ما معين، لا يعني دوام تلك الدرجة إلى الأبد. ونفس الشيء يقال عن الصراع والعداء. فأعداء الأمس، قد يكونون أصدقاء اليوم... والأصدقاء اليوم ربما يصبحون أعداء لبعضهم غـــــداً... وهـــكـــــذا.

****

والعلاقة بين أي دولتين، مهما كانت وثيقة وحميمة وحبية، لا بد أن يشوبها، من حين لآخر، شيء من الخلاف... الذي قد يؤدي إلى صراع، وربما لحروب. ولذا، فإن تصـــفــير المشاكل الدولية يعني: «تعظيم» درجة التعاون مع الدول المعنية، لأعلى حد ممكن، وتقليص درجة الصراع لأقل حد ممكن. وبكلمات أوضح، فإن «التصفير» هنا يعني:

- التأكيد على الدبلوماسية، ونبذ استخدام القوة، وحل الخلافات بالطرق السلمية.

- بذل كافة الجهود الممكنة للحيلولة دون قيام أي خلاف يذكر مع الدول المستهدفة.

- المبادرة بحل أي خلاف وتسويته، قبل تفاقمه، وتحولــه إلى صراع وما بعـــده.

****

وكثيرا ما «يقاس» مدى نجاح أي سياسة خارجية لأي دولة، في أي وقت، بمدى نجاح دبلوماسييها في «تصفير»، أو حتى تقليص، المشاكل التي قد تنشأ بين الدولة المعنية والدول التي ترتبط معها بعلاقات وثيقة، وخاصة الدول المجاورة، أو الواقعة في ذات الإقليم. وهناك سياسات خارجية لا تكترث بـ«تصفير»، أو حتى تقليص المشاكل الدولية المحيطة ببلادها. وهي سياسات أقل ما يقال عنها إنها بعيدة عن الالتزام بالحكمة والمهنية والمهارة السياسية والحنكة الدبلوماسية. والسياسات الخارجية الفاشلة هي التي تفشل في عملية تحقيق الأهداف، وتخفق في عملية تصفير المشاكل الدولية المحيطة، لأقل حد ممكن، أو التي لا تكترث بعملية التصفير أصلا.

وإن من البدهي القول إن: أكثر السياسات الخارجية فشلا وتعثرا وخيبة، هي السياسات التي تزيد المشاكل الدولية (رأسيا وأفقيا) مع الدول ذات العلاقة الهامة مع دولتها... فتضعف موقف دولتها، وتسبب لها أوجاعا ومشاغل هي في غنى عنها. فمن أكبر ما يوهن الدولة – أي دولة – ويسيء لسمعتها، هو كراهية الآخرين لها وعدائهم لسياساتها، وتربصهم بها، ورصدهم لأخطائها، أو اعتبارها ذات سياسات مؤذية وضارة للآخرين، أو أن لها سياسات سلبية مارقة، خارجة على القوانين والأعراف القومية والدولية والإنسانية.

****

وتمضي نظرية التصفير، لتنص على أن سعى أي إنسان (سواء تجسد في هيئة فرد أو جماعة، أو منظمة، أو دولة) لتصفير السلبيات والمشاكل الحياتية والقضايا العالقة، التي تواجهه وتحيط به، هو سلوك إنساني حكيم ورشيد ومحمود. وبالتالي، فإن السياسات الحكيمة هي السياسات التي يسعى متخذوها دائما لتصفير وتصفية السلبيات والمشاكل التي تواجههم. وإن تصفير المشاكل الدولية بما له من نتائج إيجابية على الأمن والسلم الدوليين، يلاحظ أكثر ما يلاحظ في ما بين الدول الديمقراطية.

أما في ظل معظم الديكتاتوريات، فعملية التصفير كثيرا ما تكون معطلة، أو بطيئة. وكثيرا ما ينجم عن ذلك تفاقم التوتر والصراعات الناتجة عن تضارب أمزجة وآراء المستبدين، وتنافر مصالحهم، وعدم خضوعهم للمساءلة، والمحاسبة. الأمر الذي كثيرا ما يوقع بلادهم في خلافات، وصراعات، وحروب، كان من السهل، وبقليل من الحكمة والمسؤولية، تجنبها، والنأي بالنفس عنها.

* كاتب سعودي