-A +A
صدقة يحيى فاضل
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط المعسكر الماركسي في عام 1991، تحول «النظام العالمي» إلى نظام القطب الواحد (أمريكا)، التي توصف بأنها زعيمة العالم «الحر». وحبس كثير من محبي السلام والمفكرين العالميين أنفاسهم، ليس حبا في السوفييت وأسفا عليهم، وإنما خشية من استبداد أمريكا، وانفرادها بالهيمنة على العالم، واتخاذ سياسات سلبية تجاه معظمه. كان وجود الاتحاد السوفييتي (بكل سلبياته) يحد، ولو قليلا من غلواء السيطرة الأمريكية، ويخفف من الجموح الأمريكي المندفع. وقد حصل ما كان أولئك يخشونه منذ حوالى ثلاثين عاما من الانفراد الأمريكي بقمة العالم، الذي يوشك أن ينتهى بولادة قوى عظمى جديدة، بعد حين غير بعيد.

تفاقمت مشاكل العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأصبحت مخالب الصهيونية أقوى وأمضى. واستمرت حلقة الثلاثي الرهيب «الفقر، الجهل، المرض» تضرب بأطنابها كثيرا من مناطق ودول العالم، الذي أغرق في بحر من الرأسمالية (وخاصة المطلقة)... وهي المذهب الاقتصادي الذي يعتبره غلاة الغربيين البديل الوحيد والأفضل لـ«الاشتراكية»، وغيرها. وبعد ثلاثة عقود، من السقوط السوفييتي المريع، يثار الآن -في بعض صحافة الغرب، وغيره- تساؤل هام، مفاده: هل العالم اليوم أفضل (اجتماعيا وأمنيا واقتصاديا وسياسيا) عن ذي قبل؟!. وبمعنى آخر: هل قدمت أمريكا، باعتبار مسؤوليتها العالمية والمعنوية والإنسانية، حلولا لمشاكل العالم المؤرقة، خاصة تلك التي كان وما زال بإمكانها حلها، أو التخفيض من حدتها؟! أم أنها ركزت فقط على تقوية ذاتها، وتطوير أسلحتها وتحقيق أطماعها؟! وإن قدمت حلولا، فما مدى فعالية هذه الحلول، وخاصة الاقتصادية، وما يتعلق بها من أمور تسهم في التخفيف من: شدة ووطأة «العناء الإنساني»؟! ما مدى مساهمة تلك الحلول، في تخفيف قسوة و«كبد» الحياة ذاتها؟!


****

إن الجواب الموضوعي، الذي يقدمه معظم المعنيين المتابعين، والذي يشير إليه الواقع الفعلي، العالمي والدولي (والذي تؤكده بعض وسائل الأبحاث والثقافة والإعلام الغربية) هو: أن العالم ليس بأحسن من ذي قبل... إن لم يكن أسوأ مما كان عليه، منذ ثلاثين عاما خلت.

فسياسياً، ما زالت مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، بعيدة عن متناول كثير من شعوب الأرض، وما زالت الكثير من الصراعات دون حل منطقي... بل إن هناك صراعات كثيرة، نشأت، وتفاقمت، بسبب الظروف والسياسات «الجديدة». كما اشتعلت صراعات وحروب عرقية واستعمارية كثيرة. وما زالت بعض شعوب العالم (وفي مقدمتها: الشعب العربي الفلسطيني) محرومة من «حق تقرير المصير». واستشرت ظاهرة الإرهاب، ونشأت حركات إرهابية مشبوهة، وغير ذلك، من المآسي المعروفة، والمألوفة في الوقت الحاضر.

****

أما اقتصادياً، فقد ازداد الفقراء فقراً... وازداد أكثر الأغنياء غنىً وتخمة، وسطوة... وارتفعت مديونية كثير من دول العالم النامي، وتدنت درجة نموها الاقتصادي، وكثرت المجاعات، وزاد معدل البطالة، وتفاقمت المشاكل الناجمة عن: تصاعد العوز والبطالة، في كثير من دول العالم النامي بخاصة. وشهد العالم، منذ عام 1991م، ارتفاعا مرعباً، في نسب التضخم، ومستويات الغلاء والأسعار، وفروق العملات.. الخ.

****

واجتماعيا، تأثرت الكثير من القيم «الطيبة» بالسلب، وطغت المادة أكثر على العلاقات الاجتماعية والدولية، وتدهور مستوى الصحة في بعض البلاد، وانتشرت فيها الأوبئة والأمراض المهلكة، وكثر النفاق، والتكالب على المظاهر الفارغة، وتصاعد الإقبال على تعاطي المخدرات.. إلخ.

أما أمنياً، فما زالت أسلحة الدمار الشامل تهدد البشرية كلها، بالفناء... ومازال انتشار الاسلحة النووية الرأسي متصاعدا، وما طفقت مصانع الأسلحة تتبارى في إنتاج الأسلحة الجديدة والمطورة، والفتاكة، وتزيد من درجة فعاليتها في القتل والتدمير، يوماً بعد يوم. وازداد تجار الحروب سطوة وشراهة. وانتشرت الجريمة، والجريمة المنظمة... وتصاعدت ظاهرة إرهاب الدول، بشكل لم يسبق له مثيل من قبل.

****

إن وضع العالم الاقتصادي - السياسي منذ انفراد الولايات المتحدة بقمة النظام العالمي، كقطب وحيد -حتى إشعار آخر- هو وضع غير مرض. فالعالم ما زال (بصفة عامة) منذ 1991م في أوضاع اقتصادية وسياسية سيئة. وما ذكرناه، هو فقط ملخص لبعض أهم شواهد هذا التدهور. ولا شك أن هذا الوضع العالمي البائس يعود إلى عدة أسباب، من أهمها: سوء بعض سياسات القطب المهيمن على مقاليد العلاقات الدولية الراهنة، ومساهمته في نشوء هذا الوضع، إضافة للتطرف الرأسمالي، وتفاقم الخلافات والصراعات الدولية. ولعل أهم ما يلاحظ على سياسة القطب الأمريكي نحو العالم ما يلي:

- صديق الأمس قد يمسي عدو اليوم. والعكس يحصل خلال أشهر.

- التدخلات لحل مشاكل العالم لا تسفر عن حلها، بل تفاقمها. ولنتذكر ما قاله منظر وعراب السياسة الخارجية الأمريكية المعاصرة «هنري كيسنجر» ذات مرة بأن: أميركا عندما تتدخل في أي أزمة، فيجب أن لا تسعى لحلها، بل لاستخدامها لما يخدم المصلحة الأمريكية...؟!

- التقلب في المواقف. فما هو صحيح اليوم، قد يصبح خطأ غدا.

- كثيرا ما يتم ضرب الأطراف ببعضها، فيحدث التصعيد والاستنزاف.

- ومن أسوأ ما يلاحظ على السياسة الأمريكية تجاه العالم والمنطقة العربية بصفة خاصة، هو «صهيونيتها».... حيث تهدف لتحقيق أهداف إسرائيل أولا، حتى إن تناقضت مع مصلحة أمريكا نفسها.

- ويؤخذ على هذه السياسات أيضا الرغبة الجامحة في السيطرة على العالم، وادعاء حماية مبادئ: الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، في الوقت الذي تقف فيه حكومة أمريكا -بالفعل- ضد هذه المبادئ، في بعض أرجاء العالم.

وكل ذلك ينم عن توجه أمريكي سلبي، لا يكترث -بقدر مناسب- بأمن وسلام العالم الحقيقيين، ويتجاهل مصالح وتوجهات الآخرين.. الأمر الذي كثيرا ما يسيء حتى للمصالح الأمريكية العليا، في المدى الطويل، ويضعف قدرة أمريكا على «قيادة» العالم في اتجاه الأمن والسلم الحقيقيين، واتجاه التنمية الإيجابية المستدامة، التي الإنسانية في أمس الحاجة لها.

****

ولا يجب -بالطبع- وضع كل اللوم على أمريكا والرأسمالية المطلقة، في كل ما حصل بالعالم، من تدهور سياسي واقتصادي وأمنى، وفي مستوى الرفاه الاجتماعي، في كثير من دول العالم النامي. كما يجب أن لا نغمط الأمريكيين وكل الرأسماليين حقهم، في ما تم على أيديهم، من الإنجازات التقنية والعلمية والاقتصادية الكبرى، والتي استفادت منها البشرية، وأسهمت في جعل حياة الناس أسهل وأريح. ورغم ذلك، يصعب القول بأن: العالم بات «أفضل»، من ذي قبل... في هذه المرحلة، التي إن أحسنَّا الظن بها، فلابد من القول إنها لم تسفر حتى الآن عن التخفيف من وطأة متاعب ومشاكل إنسان العالم المعاصر. ولعل هذا مما يؤكد تفوق الحل القائم على (الوسطية) والاعتدال «لا ضرر ولا ضرار» والحريص على مصلحة الجماعة أولاً... وكذلك ضرورة الرأسمالية ذات الضوابط.

نعم، يجب ألا يرد هذا الوضع الاقتصادي - السياسي العالمي التعس إلى سياسات القطب العالمي الحالي فقط. فهناك «أسباب» كبرى أخرى.. من أهمها: الانفجار السكاني في أغلب البلاد النامية.. وعدم كفاية الموارد الطبيعية الراهنة في العالم، لمقابلة هذه الزيادة الهائلة في السكان، وخاصة في قارتي آسيا وأفريقيا. أضف إلى ذلك: سوء الإدارة، والصراعات، والفساد... الذي استشرى مؤخرا في اغلب الديار، وبقدر لم يعهده العالم من قبل.

* كاتب سعودي