-A +A
خالد بن عبدالعزيز أبا الخيل
لم تتعرض شعيرة من شعائر الإسلام للتشويه والتوظيف كما تعرضت شعيرة الجهاد، إما من جهة المفهوم والتصور أو من جهة التطبيق والتنزيل، بل حتى مجرد ذكر هذا المصطلح (الجهاد) بات يثير الريبة عند البعض، ويتحاشى الكثير في بعض البلدان الحديث عن هذه الشعيرة والحث عليها أو ربما تلاوة النصوص التي تحث على الجهاد في سبيل الله تعالى، بل بلغ الأمر مداه حينما خيل للكثير أن هذا المصطلح من أدبيات التكفيريين وسماتهم لكثرة ما يردده هؤلاء في كتبهم أو في خطاباتهم، والحقيقة التي لا شك فيها ولاريب أن أهل الحق والسنة أولى بهذه الشعيرة من هؤلاء الضلال والمفسدين، وأن هذه الشعيرة من مفاخر الشريعة العظيمة، وأن الدولة المسلمة لا عز لها ولا منعة دون هذه الشعيرة، غير أن المشكلة تتلخص في كيفية تقديم هذه الشعيرة للناس تقديماً صحيحاً، كما جاءت في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لقد بلغ الحث على الجهاد في الكتاب العزيز مبلغاً عظيماً، حتى وصف الله عز وجل الجهاد بأنه عملية مقايضة بين المجاهد في سبيل الله وبين الله، فالمجاهد هو البائع والمشتري هو الله، والسلعة هي الروح، والثمن هو الجنة «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».


أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بلغ في حثه على الجهاد مبلغاً عظيماً حتى سماه «ذروة سنام الإسلام»، وفي حديث آخر تمنى صلى الله عليه وسلم أن ينال الشهادة في سبيل الله المرة تلو المرة – كما في الحديث الصحيح –: «والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل».

وبعد هذا هل يمكن شرعاً وعقلاً أن تبلغ هذه الشعيرة تلكم المنزلة وهذا المقام العظيم ثم بعد ذلك تكون بهذا الحضور الخافت لدى المسلمين؟ بل بكل أسف كان حضوراً يثير الريبة والتوجس من هذا المصطلح في بعض الأحيان، وتعدى الأمر إلى أبعد من هذا، وذلك بمحاولة إيجاد علاقة عضوية بين الجهاد والإرهاب عند من غاب عنهم الفقه والرشد، وتماهوا مع دعايات الأعداء!

إن هذا يدعونا جميعاً كباحثين وعلماء وطلاب علم إلى البحث عن أسباب المشكلة والنفاذ بشجاعة إلى أغوارها، والإجابة بشفافية تامة على ما يرد في هذا الباب من أسئلة حفاظاً على هذه الشعيرة وحراسة لثغور الشريعة من أن ينفذ منها العدو، ولا أظن أن المقام سيتسع للإجابة على كل هذا، لكن لعلي أذكر أمرين مهمين من الممكن أن يساعد تصورهما على حل هذا الإشكال وتجلية الحق والهدى، أولهما: في الخلل في مفهوم الجهاد، وثانيهما عرض أهم شروط الجهاد وأحكامه: أما «الخلل في مفهوم الجهاد وتصوره»، فلا أعتقد أن أحد سيماري في أن هذه الشعيرة تعرضت إلى تشويه مستمر من قبل جماعات العنف والتكفير، إذ تم تقديم الجهاد للشباب على أنه هو القتال حتى الفناء، فتحول الجهاد – بفعل هؤلاء- إلى مفردة مرادفة للانتحار والموت، وهذا فهم ناقص وتصور ساذج، وقد أدى هذا التصور وهذا الفهم إلى أن صار الشاب البائس يرى في «الجهاد» حلاً نهائياً لمشاكله بذريعة البحث عن الشهادة! بينما الحقيقة الكامنة هي رغبته في الانتحار والموت! ولهذا ليس بغريب أبداً أن يكون كثير من المتورطين في المخدرات من الشباب من ضحايا الدعاية الإعلامية لتنظيم داعش!

إن مفهوم الجهاد في الإسلام مفهوم عظيم وشامل، فهو يكون مرة قتالاً، ويكون مرة صلحاً، ويكون مرة سلماً، ويكون مرة هدنة، وقد سمى الله عز وجل صلح الحديبية «فتحاً مبيناً»، وهو صلح لم ترق فيه نقطة دم واحدة! فقال سبحانه: «إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً»، أما قتال العدو بحد ذاته فليس هو مما يرغب فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتنموا لقاء العدو واسألوا الله العافية»، بل قبل ذلك في القرآن الكريم حينما رغب الله تعالى بالجهاد في سبيله فقال سبحانه: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» ثم في آخر الآية ندب إلى السلم وحث عليه فقال سبحانه: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها»، وفي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوصيه أن يختار في حالة الفتنة والاشتباه خيار السلم، فيقول له – كما في مسند الإمام أحمد –: «إنه سيكون بعدي اختلاف فإن استطعت أن يكون السلم، فافعل». وفي المقالة القادمة بإذن الله سنتناول أهم شروط الجهاد وعلاقتها بالتصور الصحيح للجهاد في سبيل الله تعالى.

*كاتب سعودي