-A +A
محمد مفتي
في أحد أيام شهر أغسطس عام 1973 قام بعض اللصوص بالسطو على أحد البنوك في مدينة استوكهولم، وقد تم اتخاذ موظفي البنك وعملائهم كرهائن لعدة أيام، وبعد مفاوضات مضنية تم تحرير الرهائن والقبض على الجناة، غير أن الغريب في هذه الحادثة أن الرهائن رفضوا التعاون مع سلطات استوكهولم لإدانة الجناة، بل قاموا بتوكيل محامين للدفاع عن الجناة، ولقد حير هذا السلوك رجال الأمن والقضاة بالسويد، وقد توصلوا بعد فترة من الدراسة إلى أن هذا التعاطف الغريب من الضحايا تجاه الجناة يمثل ظاهرة نفسية، تنشأ عندما تقتنع الضحية وتؤمن بما يؤمن به الجاني أو المعتدي من قيم وأفكار وخلافهما، ومن خلال دراسة سلوك الضحايا -بصفة عامة- اكتشف المختصون أن الشعور بالتعاطف مع الجناة يصيب نسبة لا بأس بها من الضحايا، مما دفعهم لإطلاق مصطلح «متلازمة استوكهولم» على هذه السلوكيات اللامنطقية.

يبدو أن متلازمة استوكهولم ظاهرة طفت مؤخراً على السطح على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وخاصة بعد انتشار الفوضى في بعض الدول العربية التي أصابتها حمى ما يسمى بثورات الربيع العربي، ولا سيما تلك التي تعاني من التفكك حالياً، فنجد بعض أبناء تلك الشعوب المنكوبة يترحمون بحسرة على حكم زعمائهم الديكتاتوريين، والمعروفين حتى على المستوى الدولي بفتكهم بشعوبهم على نحو دموي مفرط في القسوة، فنفاجأ بمن يترحم على أيام صدام حسين، متجاهلين جرائم التعذيب والقتل التي طالت جميع طوائف الشعب العراقي من سنة وشيعة وأكراد، كما نجد من يتباكى على معمر القذافي الطاغية الذي استخف بشعبه وحرمهم من خيرات بلادهم ومواردها الثرية، واحترف الإرهاب الدولي وقتل المعارضين دون أن يرف له جفن، كما نجد أيضاً من يرى من السوريين ضرورة استمرار نظام بشار الأسد في حكم سوريا، على الرغم من الجرائم التي ارتكبها هذا الأخير في حق بلده.


من المؤكد أنه يصعب تفسير هذا السلوك اللاعقلاني إلا من خلال الاستعانة بمتلازمة استوكهولم، فهؤلاء المترحمون على أنظمة أولئك الطغاة يقارنون حالة العبث والتشرذم الحالية بأيام حكم الطغاة، بمعنى أنهم يوازنون بين السيئ والأسوأ، وكأنهم ممن يستجير من الرمضاء بالنار، غير مدركين أنهم بذلك يسيئون لأنفسهم أولاً وأخيراً، وكأنهم يسلمون للعالم وللتاريخ بأنه لا ينفع لحكمهم سوى الطغاة ومجرمي الحرب، مع أنه بالقليل من الموضوعية وتحليل الأحداث سيكتشفون ببساطة أن تلك الفوضى التي يعانون منها ما هي إلا نتاج لحكم أولئك الطغاة، الذين صمموا نظم الحكم على نحو لا يسمح إلا بوجودهم هم أنفسهم في سدة الحكم، وفي حالة حيازة كاملة لجميع مفاتيح إدارة الدولة، بحيث يتم إجبار الشعب على الاختيار ما بين خيارين اثنين فقط، إما هم أو الفوضى والحرب الأهلية.

لو تأمل هؤلاء المتحمسون لعودة حكامهم الديكتاتوريين قليلاً فسيدركون أن أولئك الطغاة هم السبب الرئيسي فيما يعانونه الآن، ذلك لأنهم كانوا يحكمون دولاً بلا مؤسسات، وهو ما نتجت عنه الفوضى بعد زوالهم إلى غير رجعة، وهو ما دفع بعض الليبيين إلى القول بأن القذافي حكم ليبيا حياً وميتاً، وكذلك ما صرح به صدام حسين قبيل شنقه مباشرة بأن «العراق لا شيء بعدي!» وربما هذا ما حدث بالفعل، ونتج عنه وجود قطاع كبير من الشعب قام بتكييف نفسه مع الظروف بالغة القسوة، وتدريبها على قبول الهوان مقابل الحفاظ على الحد الأدنى من المعيشة.

لا شك في أن جرائم تلك الأنظمة الديكتاتورية فاقت جميع التوقعات، وامتدت آثارها ليس للحاضر ذاته فحسب، بل للكثير من الأجيال التالية، ولا يعلم إلا المولى عز وجل وحده متى ستنتهي، فلم يكفهم قمع شعوبهم وذلهم خلال عقود من الزمن، بل تركوا البلاد في حالة فراغ سياسي ممتد وشامل أغوى الدول راعية الإرهاب -وكذلك المنظمات الإرهابية وميليشيا المرتزقة- للعبث به والانتشار بين صفوفه، ناشرة الفوضى والإرهاب إلى حد بلوغ الحرب الأهلية في بعض الحالات.

لقذ ذهب الطغاة إلى غير رجعة، غير أنه من المؤكد أن حالة التفكك التي تعاني منها تلك الدول الآن ترجع -بصورة كبيرة- لدعم بعض الدول الراعية للإرهاب للميليشيات المسلحة بهدف بسط نفوذها وسيطرتها على تلك الدول، وهي من يغذي الإرهاب مالياً وفكرياً، لكننا نعول على العقلاء والحكماء في تلك الدول لتحكيم العقل والعمل على خدمة مصالح بلادهم، والانتباه للشرك الذي تحاول تلك الجهات الزج ببلادهم فيه، إننا نعول على أولئك العقلاء والمفكرين ليقوموا بأدوارهم في توعية الشعب بحقائق الأمور التي غابت تحت ركام الواقع المر، وتحفيزهم ودعمهم لرفض تدخل المعتدين في شؤون بلادهم الداخلية، لعلهم ينالون بعض الاستقرار والأمان والرفاهية التي طال غيابها عن بلادهم.

* كاتب سعودي