-A +A
هاني الظاهري
علمتنا السنين والإجراءات الكثيرة التي أنجبت وأرضعت وربت ظاهرة التشوه البصري داخل مدننا أن البيروقراطية سبب رئيس وربما وحيد في صناعة هذه الظاهرة، وأن وزارة الشؤون البلدية والقروية تحديداً هي أكبر مركز إبداعي في بلادنا لصناعة التشوه البصري بسبب الكثير من الأنظمة والاشتراطات التي تصدرها لإرضاء ذائقة مسؤوليها باعتبار تلك الذائقة المرجع العالمي الأول للجمال والتنظيم!

كانت مدننا زاهية في السبعينات والثمانينات بألوان مبانيها وتصاميمها المتنوعة وشرفاتها التي تعكس طابع الحياة ثم جاءت الاشتراطات الشكلية الخاصة بالتصميم في نظام كود البناء السعودي لتحول المباني إلى قوالب أسمنت بشعة بنوافذ ضيقة وتختفي على إثر ذلك الشرفات من مباني السعوديين وذاكرتهم وثقافتهم إلى الأبد.


كان تفاوت ارتفاع المباني المتلاصقة داخل الحي الواحد واختلاف تصاميمها يمنح العابرين شعوراً بالتنوع وإحساساً جمالياً مشابهاً لذلك الإحساس الذي يغمرنا عند النظر إلى لوحة تشكيلية زاهية وحافلة بالأشكال المتداخلة، ثم جاء اشتراط توحيد الارتفاع لتصبح جميع المباني بشكل واحد مع بعض اللمسات البسيطة المختلفة بهدف تنافس تلك المباني فيما بينها على الجائزة الكبرى للقبح والبشاعة.

تذكرت ذلك وأنا اقرأ الخبر الذي نشرته «عكاظ» أمس الأول عن الاشتراطات الجديدة التي وضعتها وزارة الشؤون البلدية والقروية للبقالات وخصوصاً تلك المتعلقة باللافتات، إذ تنص على وجوب «أن تكون لافتة المحل مطابقة للتصميم والهوية البصرية في اللائحة الجديدة بالألوان، وبحجم ونوع الخط، والعلامة التجارية الموحدة. ويحظر استخدام أي لافتات غير مطابقة للمواصفات، أو التغيير في أماكن وأبعاد وأحجام التصميم المعتمد»، وتبين اللائحة: أن هدف الاشتراطات الحديثة معالجة التشوه البصري من خلال توحيد لوحات المحال بتصميم وشعار موحد!

لا أعرف حقاً من الذي أقنع الأحبة في وزارة الشؤون البلدية أن ذائقتهم هي معيار الجمال ومعيار تحديد معنى التشوه البصري، فهذه مسألة نسبية مختلفة من شخص لآخر وهناك مدارس ونظريات كثيرة في التسويق والدعاية والإعلان مرتبطة بهذا الشأن ومن سوء التدبير اتخاذ قرار بنسفها وفق رأي لجنة لا علاقة لها بهذه الفنون، ثم ألا يدرك هؤلاء الأحبة أن جمال أي مدينة في التنوع، كما أن أساس التشوه البصري هو ذهنية الوصاية الطاردة لرؤوس الأموال والمعيقة للأفكار الإبداعية والخلاقة.

هناك تجربة لتوحيد شكل لافتات المحال التجارية نُفذت سابقاً في إحدى المدن، وخلفت للأسف تشوهاً بصرياً مريعاً ألغى هوية المدينة ونسف هويات المتاجر وحول المجمعات التجارية إلى ما يشبه الثكنات العسكرية، ويبدو أن هذه التجربة تناسب ذائقة من عملوا على اللائحة الجديدة فقرروا تعميمها، وهو خطأ فادح برأيي ينبغي التراجع عنه وترك الأسواق تدير نفسها بنظريات التسويق التي تحكم أسواق العالم لا ذائقة المسؤول.

* كاتب سعودي