-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أعرف 7 أصدقاء باسم علي الغامدي، منهم الطبيب والمهندس والمحامي ورجل الأمن والطيار ورجل الأعمال ورجل المال، وكلهم تربطني بهم صداقة راسخة تتحدى صروف الزمان، ولكن هذا العلي الذي أتحدث عنه اليوم ليس صديقي!

قصته تجعل أي من يقترب منها يغرق فيها ولا ينجو من طوفانها أبداً، قصته قصة عشق، توقظ الزمخشري من قبره، فهي قصة بليغة في عصر العطاء الديجتال، قصة لا تحتاج إلى زخرفة أو استعارة أو حتى مجاز، أسمر من هذه البلد السمراء، لونه كرغوة القهوة البرونزية عندما تملأ الركوة عن آخرها، رجل أطلق العنان لجسده في ما يشبه الطيران، ليس فراشة ولا حجلاً وليس بزخة مطر مباغتة، إنه كائن سحري، يطير بأشواق علوية، يحلق عالياً بأقصى طاقة الروح، هناك منطقة روحانية في جغرافية العطاء، هي من تنشل الجسد من ثقله الدنيوي، وتشفت به حتى يكاد لا يرى، «علي الغامدي» رجل ممن رددوا قول الشاذلي «أعرف الله وكن كيف شئت»، ولقد شاء علي أن يكون محسناً، وأن يسجل قصة عطاء معلنة، يفتش عن محتاجيه مثل طوبوغرافي يفتش عن معادن غير مرئية في الأعماق المجهولة، كائن تحركه قوى عقائدية، تجعل منه شعاعاً يلمع في مكان ما، ويمضي إلى مكان آخر، ناشراً الضوء، مسجلاً كشهب «سعودي مر من هنا»، تكفل برعاية 7 آلاف يتيم في 28 دولة أفريقية، وغطى احتياجات 2000 أسرة وأنشأ 21 داراً للأيتام، كل ذلك من ماله الخاص وبإشرافه الشخصي المباشر، كان يعبر أفريقيا من ضفة إلى أخرى بلا بدء ولا انتهاء، وعلى فمه ابتسامة عريضة تفتح وجهه الأسمر وتنوره، يمشي فوق الطين المبلول الأسود الذي ينز أحياناً بماء آسن، وبحذاء مثقل بالطين، ينهشه الذباب الذي يتجمع حوله، ويمضي بين أزيز الدبابير والنمل الكبير، يسلك دروباً متربة، متعرجة ويتوغل في كثبان رملية ويمر بكهوف ومغارات وآبار جفت مياهها، كل ذلك من أجل توعية الأهالي في مناطق اليتم، وليتجاوز اليتيم شعوره بافتقاده لمن يؤنسه، وليعلمه كيف يعتمد على نفسه، وينسى شعور النقص والحاجة والعوز، وعلي الغامدي وزوجته تومأن مصنوعان من قالب واحد من الفكر الإغاثي والعوني والإحسان الحقيقي، يملكان نفس صفات الإصرار والعطف والحنان ومساعدة الأيتام أينما كانوا وحيثما وجدوا، رجل يعمل في الليل كما يعمل في النهار، مثل شاعر يصوغ قصيدة خالدة من أعماق قلبه، تشاهده وهو يحضن تلك العظام النحيلة كما تحتضن أم محزونة طفلتها الحبيبة إلى قلبها، يمنحهم دفئاً تتوقد منه شموع، وأنت تتابعه تستنشق هواء آخر، وتكتشف عطراً جنوبياً مبتكراً، شيء من التوازن الروحي يحتلك وأنت تشاهده يقبل أطفالاً، كأنه يبحث عن رائحة حليب أمهاتهم في مساحات وجوههم، وأنا أتابع لقطة لعلي الغامدي، وهو يتحدث عن طفل إلى جواره عجز أهله عن تدبير تكاليف علاجه ويبكي بكاء حقيقياً ولاذعاً جداً، يستمر في البكاء وكأنه نسي الكلام، وفجأة ينطق بجملة واحدة، «ربنا يقدرني على تغطية علاجك»، قالها بأنين وأدار وجهه جانباً، تلك الجملة جعلتني فجأة وكعاشق خائب أدرك وأنا في مساء العمر، أننا كائنات مكسورة عطبة تعيش في متاهة يومية ملتصقة بصمغ الحياة، تفكيرها لا يتعدى ما توفره الحظيرة من علف يومي، دون أن نرفع أعناقنا أبعد من السياج، كائنات مادية محنطة مهمومة بقاموسها الأناني اليومي، والاستعداد لدفع الفاتورة الشهرية، فاتورة عمرنا الحزين والمدمي، نغوص في رتابة الأيام، نتكوم أمام التلفزيون، ننتقل من محطة إلى أخرى، نتجاوز مناظر الفقر والأجساد التي ترتدي أسبلا بالية مرقعة باهتة على اللحم، موعودة بالعذاب والأمراض السارية والموت البطيء، نتجاوزها كأخبار عابرة مقززة مزعجة وعلى مدار أيام الأسبوع، وفي نهاية الأسبوع نفتتن بأحاديث ما بعد صلاة الجمعة من أقوال الدعاة، عن مباهج الجنة وعذاب جهنم والخطيئة والغفران، أفكر في كل ذلك، وأسحب نفساً عميقاً، أذهب إلى عالم «علي الغامدي»، الذي استطاع اختزال معنى الحياة في كلمة واحدة «عطاء»، ويدهمني سؤال هل سيدخل علي الغامدي الجنة بما فعل فقط؟!


* كاتب سعودي