-A +A
صدقة يحيى فاضل
إذا سلمنا بأن: «السياسة» هي: الإدارة العليا للبلاد -أي بلاد- فإن من البدهي القول: إن هذه الإدارة تؤثر في كل كبيرة وصغيرة، في المجتمع، وفي حياة الناس العامة؛ أي أن أمور الإنسان العامة، منذ ولادته وحتى وفاته، تديرها -بشكل مباشر وغير مباشر- السياسة، وسواء بطريقة سليمة ونزيهة، أم بعكس ذلك، فهي تديرها علي أي حال. وعندما يهتم أي إنسان بأمور بقائه وأمنه وصحته وتعليمه ورفاهه، ومستقبله ومستقبل أبنائه وذويه... إلخ، فإنما يهتم بالسياسة، في مجتمعه وفي غيره، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن حيث يدري أو لا يدري، يرغب أو لا يرغب. إن الحديث في الشأن العام يعنى: التطرق للسياسة - بصفة أساسية. ويندر أن لا يكترث إنسان راشد بالشأن العام الذي يعنيه. لذلك، غالبا ما لا يخلو أي لقاء بين شخصين راشدين أو أكثر، من حديث تلقائي في الشأن العام (السياسة).

وقد أسفر الانفتاح المجتمعي، والتقدم العلمي والثقافي، الذي شهدته بلادنا والعالم في العقود الأخيرة عن تزايد أعداد المتعلمين والمثقفين، ونشوء «ظاهرة» جديدة - قديمة، ملحوظة، هي ظاهرة المجالس الدورية، المنظمة، وشبه المنظمة، إضافة إلى اللقاءات العفوية. وهي ظاهرة توجد بين الذكور بصفـة أساسية. و«المجلس» الذي نقصده هنا، هو مفرد «مجالس»، ويمكن تعريفه بأنه: التقاء مجموعة من المعارف والأقارب والأصدقاء (ربما يتراوح عددهم بين 5- 30 شخصا) بشكل دوري، أو عفوي، في وقت محدد (غالبا من بعد صلاة العشاء إلى قبل أو بعد منتصف الليل بقليل) بدارة أحدهم، أو حتى في مكان عام؛ وهو لقاء تجديد للصداقة والمودة، والتسلية، والنقاش في الأمور والمسائل التي تهم المجتمعين، وتشغل بلادهم وعالمهم.


ويسمي البعض المجلس بـ«الديوانية»، التي تسمى باسم مستضيفها، أو باسم اليوم المحدد لها، من أيام الأسبوع. وقد انتشرت هذه الظاهرة في كثير من البلاد العربية، لأسباب يأتي في مقدمتها -كما قلنا- التطور العلمي والثقافي في هذه البلاد وغيرها، ومحدودية وسائل وأماكن التسلية العامة، وقلة المنتديات العلمية والثقافية العامة، والرغبة المتزايدة لدى مرتادي هذه المجالس، للتنفيس عن أنفسهم، ولقاء أحبائهم، واستعراض آرائهم، وسماع ردود الفعل عليها، وكذلك آراء الآخرين، في ذات المواضيع والمسائل، على رشفات القهوة والشاي، وغيرهما.

****

وهناك مجالس (أو دوريات) تقام لتزجية الوقت -بصفة أساسية- وخاصة في ألعاب عدة، تتقدمها لعبة «البلوت»، وتدخين «الشيشة»، والأحاديث الهامشية. وبعد ذلك ينفض السامر، ليعاودوا الاجتماع في ذات الموعد، في الأسبوع التالي. وهناك الآن دوريات شهيرة، في كل مناطق المملكة تقريبا. والواقع، أن «مستوى» النقاش (الفكري) الذي يدور في كل من هذه المجالس واللقاءات، يعتمد على: مدى علم وثقافة الأعضاء المجتمعين. والعلاقة بين المتغيرين (مستوى المناقشة، وثقافة الأعضاء) هي علاقة طردية. كلما ارتقى المستوى الثقافي والعلمي للمنتديين، ارتفع مستوى النقاش، وتصاعدت فائدته، وانتشرت أصداؤه، والعكس صحيح. وعندما يتم الحوار في أطر سليمة، فان الآراء المختلفة تهذب، ويقوّم أي اعوجاج فكري فيها، ثم تتبلور، وينزع منها الغلو والشطط. ويمكن اعتبار «محصلة» نقاش المجالس -ذات المستوى الثقافي والعلمي المتقارب- خلاصة الرأي العام السائد، تجاه القضايا المعينة. أو -على الأقل- الرأي العام للشريحة الاجتماعية التي يمثلها أعضاء تلك المجالس.

****

نعم، يمكن معرفة «الرأي العام» للفئة المجتمعة، سواء كان اجتماعها دوريا، أو عفويا. ولعل من أبرز ما يلاحظ على هذه اللقاءات وما يدور فيها من نقاش وأحاديث، يمكن اختصاره فيما يلي: -

1) ضعف «تنظيم» كثير من هذه المجالس، وانعدام المنهجية الواضحة والمحددة للمناقشة، فغالبا لا تعرف المواضيع -أو الموضوع- الذي سيناقش مسبقا، ومن يتحدث، ومن يناقش... الخ. الكل -تقريبا- يتحدث، وببعض الإسهاب، وأحيانا في وقت واحد. ولكن هذا أمر طبيعي، يفرضه اللقاء العفوي والأخوي غالبا للمجتمعين.

2 ) غلبة الشأن السياسي (العام) على أحاديث أغلب هذه المجالس. وهذا أمر طبيعي أيضا تفرضه ماهية السياسة (الشأن العام) وطبيعتها وتأثيرها الملموس على كل جوانب الحياة الدنيا. تطرح شتى المواضيع والمسائل. ولكن، غالبا ما تطغى مواضيع الشأن العام من لحظة لأخرى. ويلاحظ أن هذه المواضيع تناقش بحذر، غالبا ما يفقد النقاش موضوعيته وصحته، حتى أنه كثيرا ما يظن المرء أنه يستمع لمنبر إعلامي.

3 ) ورغم هذا الاهتمام (الطبيعي والتلقائي) بالشأن العام، يلاحظ وجود تدنٍ واضح في درجة «الوعي السياسي»، بين بعض الحاضرين، أو جلهم، ينعكس (بالسلب) في أحاديثهم، وما يطرحونه من أفكار، وهذا التدني في «الوعي السياسي» -بين بعض المتعلمين والمثقفين- هو ظاهرة عامة مزعجة، في معظم المجتمعات العربية، الأمر الذي كثيرا ما يجعل «محصلة» هذه المناقشات والحوارات غير دقيقة.

وكثيرا ما يصعق المرء، عند الاستماع إلى بعض المتعلمين، و«المثقفين»، وهم يفسرون ويشرحون بعض «المفاهيم» و«الأحداث» السياسية، بما يعتقدون أنه صحيح. فالبعض -على سبيل المثال- لا يفرق بين «الدولة» و«الحكومة». والبعض لا يعرف «أنواع» الحكومات، وما يترتب على قيام كل نوع. وآخرون يحصرون «السلطة» -جهلا- في شخص «رئيس» الدولة، في كل بلد.. وعند البعض، فإن «الديمقراطية» هي اختراع غربي مغرض، أما «الديكتاتورية»، فالغالبية لا تعرف حقيقتها وطبيعتها، وإن كان لدى الغالبية هذه شعور بأنها شيء غير طيب.. وما إلى ذلك.

****

والخلاصة، أصبح الإلمام بألف باء السياسة وأساسياتها ضرورة ملحة لكل متعلم ومثقف. فلا بد لكل متعلم ومثقف من رفع مستوى وعيه السياسي، لدرجة معقولة تتناسب مع ما لديه من علم وثقافة، وتتلاءم مع مستوى الوعي السياسي العام الإقليمي والعالمي الراهن. والواقع، إن ثقافة أي إنسان لا يمكن أن تكتمل إلا إن ألم بأساسيات السياسة. وربما يفي كتاب في «مبادئ علم السياسة»، وآخر في العلاقات الدولية، وثالث في الفكر السياسي، بهذا الغرض، ويحقق لقارئهم الخلفية السياسية المطلوبة، كحد أدنى.. فقليل من الاطلاع في هذا المجال يساعد في فهم كثير مما يجري حولنا.

إن هذه اللقاءات والمجالس، يعكس ما يدور فيها «الرأي العام»، بصفة عامة، نحو قضايا الساعة؛ سواء المحلية أو الإقليمية، أو العالمية للفئة المجتمعة، وتتطرق تلقائيا وعفويا للسياسة. وهي -بصفة عامة- ضرورة (توعوية)، وظاهرة إيجابية،حتى إن ظل يشوب أغلبها هذا التدني الملحوظ في الوعي السياسي، واكتنف سير النقاش فيها حذر مبالغ فيه.

* كاتب سعودي