-A +A
نجيب يماني
في الوقت الذي دخلت فيه الجزائر الفراغ الدستوري مع استمرار المظاهرات وحملة الاعتقالات ومحاكمات رموز النظام السابق فرح المحبون بتوصل أطراف الأزمة السودانية إلى اتفاق على تشكيل حكومة تتولى القيادة خلال الفترة الانتقالية حتى لا ينزلق ذلك البلد الجميل الغافي على ضفاف النيل نحو الفوضى والضياع وتدخل الرعاع للولوغ في برك الدم وحفلات القتل. لقد درج العقل الجمعي في مجتمعاتنا العربية على دمغ أمم وشعوب بصفات إجمالية، بحيث تصبح الصِّفة المشاعة والمتداولة بين النّاس هي المعيار الذي يقاس عليه أي فرد ينتمي إلى تلك الجهة المعنية، ويتمّ استحضار هذه الصّفة بشكل تلقائي وفوري دون تمحيص أو تثبّت. وبلا شك فإنّ العقل الجمعي لم يكن ليصل إلى هذه القناعة الجمعية التلقائية إلا بعد تراكم المشاهدات والمواقف التي تجعل من أمر تمرير صفة ما على شعب من الشعوب، أو أمّة من الناس شيئا مقبولا ومتفقا عليه غير متغافلين بالضرورة عن وجود استثناءات تخرق النّاموس المتفق عليه، وتثير من العجب والاستغراق أكثر من إشاراتها إلى تبدّل الأحوال أو تغيّرها.

إن المتأمل في شخصية الفرد السّوداني، من واقع تعايشنا معه وتعايشه معنا يجد فيه من الصّفات الحميدة، والخصال النبيلة ما يجعلها تنداح بصورة تلقائية مشعية قدرا كبيرا من الاطمئنان والثقة في هذا «الزول»، الذي ما عرفناه إلا أخ ثقة وأمانة ونخوة ومروءة وتعفّف ونكران للذّات وكرم فياض، وزان كل ذلك بزهد مثير للتعجّب والحيرة، ومجسداً قوله عز وجل: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة». فوراء كلّ فرد سوداني أرتال من المسؤولية، يكدح في وطنه وغربته ليوفر لقمة عيش كريمة لأسرته، وأحباب أبعدته الحاجة عنهم، وألجأه العوز لفراقهم، إنه شعور «الإنسانية» الفيّاض في هذه القلوب التي عايشتها عن قرب، وتلمّست طريقة عيشها وتفكيرها وأسلوبها في الحياة، يدفعني إلى القول إلى أن هؤلاء قوم لا يمكنك أن تسبر غورهم أو تستجلي معادنهم إلا عن قرب ومعايشة لصيقة، وما أبدع ما قاله الشّاعر الفيتوري في حقِّ هذه الشخصية:


«لن تبصرنا بمآقٍ غير مآقينا

لن تعرفنا.. ما لم نجذبكَ فتعرفنا..

وتكاشفنا..

أدنى من فينا قد يعلونا..

فكن الأدنى..؛

تكن الأعلى فينا»

إنّ لكلّ فرد منّا قصة نبيلة مع «زول»؛ جديرة بأن تحكى، وقمينة بأن تستعاد في معرض الافتخار والاعتزاز.. وعلى هذا فلم يكن غريبا أن نرى ونلمس ونعايش هذه المساندة الكبيرة، والدعم المقدّر الذي تبذله حكومة المملكة في مساندة الشعب السوداني والوقوف إلى جانبه شعوراً يتسق مع مكوناته الفطرية وسجيته السليمة المرتبطة بهذه الأرض المقدسة تجاه أخواتها في العقيدة والدم والمصلحة محبة فياضة ذات طبيعة خاصه تجاه تلك القلوب السّمراء. وعلى مرّ التاريخ ظلّت المملكة تستشعر الأمن والسّلامة والطمأنينة من تلقاء بوابتها الغربية المتصلة بهذا البلد الكريم، والأرض المعطاءة، برغم ما ران على هذه العلاقة الأزلية من لحظات توتر في السنوات الأخيرة من جرّاء سلوك فئة نعرفها جيدا، وندرك توجهها، ونستشعر مقاصدها، عرفت طريقها إلى السلطة في غفلة من الزّمن، فتسلّلت بأجندة لا تعبر عن الفرد السوداني الأصيل، ولا تمثله بأيّ حال من الأحوال، وإنما هي «بوق» لأصحاب «الأيديولوجيات الأممية»، وأصحاب الأفكار الدموية الهدامة، ولم يخب رهاننا على «السوداني الأصيل» في وعيه بخطورة مثل هذا التوجه، وفداحة المضي في طريق لن تكون عاقبته إلا الخسارة الماحقة، فآثرت أن تبعد تلك «الفئة، وتجتث شأفتها». وها نحن اليوم نشهد بداية عودة السودان الذي نعرف، الدّاعم للحق، والمساند للفضيلة، والنّابذ لكلّ أسباب الفرقة والشّتات وإشاعة الفتنة بين النّاس.

إنّ ما يقوم به الشعب السوداني اليوم نابع من ذلك الشّعور المتوطّن محبة في داخله، وليس سلوكا براغماتيا تحرّكه «تكتيكات» المصالح، و«تسليع» المواقف، ولهذا فإنّ أي دعم سياسي أو اقتصادي تقدمه المملكة العربية السعودية لأشقائها في السّودان يجب أن لا يفهم على اعتبار أنّه قيمة «فاتورة» لموقف من المواقف، فقد ظلّت المملكة نصيرة للسودان حتى في لحظات التوتر، كما كان السودان سندا للمملكة بكوادره التي أسهمت في حركة التنمية والتعليم في ربوع بلادنا الفتية. إن ذلك البلد الأسمر مهيّأ بكلّ أسباب التهيئة الربانية لعملية الاستثمار الزّراعي، بما يجعل منه الحل الأمثل للمملكة لتوفير أمنها الغذائي، فأرض السودان ولود ومعطاءة وخصبة، والمياه متوفرة، وأسباب الأمن متوفرة فيه بما يرسي القواعد الأولية والأساسية لمتطلبات الاستثمار الزراعي والحيواني على السواء.

إنّ الوشائج الكبيرة التي تربط بين السوداني والسعودي ستظلّ متينة ما بقيت في الخواطر، روح تهفو إلى البيت الحرام، وقلوب تشتاق إلى مدينة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وطالما بقي الفرد السعودي مستشعرا لهذه القيمة النبيلة التي يحملها السوداني، ومقدرا لها أحقّ التقدير، ومراعيا لها كلّ المراعاة، يؤكد كل هذا ما قاله الأمير محمد بن سلمان (إن هناك روابط أخوية وثيقة بين الشعبين فقد كانوا إخواننا وأخواتنا ولا يزالون جزءاً من نسيجنا الاجتماعي أسهموا في مسيرتنا ولن ندخر جهداً في المملكة لتحقيق الاستقرار والأمن للسودان وشعبه الكريم). وتبقى كنداكة الثورة السودانية ملكة حاضرة لتحقيق أهداف الثورة وتطلعاتها العالية.

* كاتب سعودي