-A +A
خالد بن عبدالعزيز أبا الخيل
من أعظم سمات المؤمنين الإيمان الكامل واليقين المطلق بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم على أنه حق لا مرية فيه؛ ولهذا فهم يتعاملون مع كل الفلسفات والأفكار على أنها أفكار عابرة تمر على سطوح عقولهم وقلوبهم دون أن تترك عليهم من أثرها شيئاً، وما ذاك إلا لاستمساكهم الشديد بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، فكان هذا التمسك هو ما يعصمهم -بعد توفيق الله- من فتنة الهوى المتبع والشح المطاع، ولنا هنا أن نستعرض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ألقاه على أصحابه في آخر أيام عمره الشريف، حتى فهم الصحابة رضوان الله عليهم أنها خطبة الرحيل، فقالوا: أوصنا وزدنا، فألقى عليهم صلى الله عليه وسلم بضع كلمات جامعة كانت طوق نجاة وميثاق فلاح، من استعصم بها فاز ونجا، ومن تنكبها خسر وهلك، فقال عليه السلام: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».

إن المخرج من هذا الاختلاف الكثير هو تقوى الله تعالى ولزوم أمره والثبات على دينه مهما كثرت الفتن وتشكلت الأهواء، والتجرد المطلق في اتباع السنة ولزوم المنهج، فلا يتعصب أهل الحق إلا للحق، ولا يميلون إلا معه، ولا يستنكفون من العودة إليه إن ظهر لهم خلافه، فهم يدورون مع الحق حيث دار، يمضون في حياتهم ويضربون في مناكب الأرض لكن نفوسهم لا تغفل عن عيوبهم، فتراهم يراقبون أنفسهم ويحاسبونها بعد كل قول أو فعل، ماذا أردنا بهذا القول؟ وما غايتنا من هذا الفعل؟ فإن كان لله مضوا وإن كان للدنيا وقفوا، أما حالهم مع جماعة المسلمين وإمامهم، فالسمع شعارهم والطاعة دثارهم، يتخذون ذلك ديناً يتقربون به إلى خالقهم، فلا يقسطون ولاءهم لإمامهم بحسب عطاياه وهبته، فهو عندهم دين محكم وسنة ماضية، ولهذا لم تغرهم يوماً الفلسفات والأحلام الثورية ولم تستولِ عليهم زخارف الشعارات الكاذبة الخاطئة؛ لأنهم بما آتاهم الله من علم ويقين يعلمون أنه صلى لله عليه وسلم لا يأمر إلا بما تنتظم به مصالح العباد في دينهم ودنياهم؛ ولهذا كان الصحابة أولى الناس بهذا الفقه والرشد حتى قال علي رضي الله عنه: «إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر»، وعلق ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث بقوله: «وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم». ولأجل هذا اليقين والرسوخ فإن أهل الحق في هذا الباب سمتهم الثبات ومنهجهم الاطراد، فليس لهم إلا لون واحد ووجه واحد، حتى لو تبدى الباطل في ثياب الحق فإنه لا يخفى عليهم ولا يشتبه لهم.


ثم في منتصف النص الكريم قال صلى الله عليه وسلم: «فإنه من يعش منكم من بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً»، ومناسبة هذه التذكير هو التأكيد على تعظيم ما قبله وما بعده من وصايا، فما قبله: الوصية بتقوى الله تعالى ولزوم السمع والطاعة لولاة الأمور، فهي عصمة ومخرج من هذا الاختلاف الكثير، وكذلك ما بعده: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ»، والسنة هنا هي لزوم المنهج الكامل وذلك بالتمسك بما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذا هو المنهج المعصوم، وما سواه من مناهج الاتباع يدخلها النقص والقصور، ولازم هذا أنه ليس لأحد من الناس أن يقصر منهج السلف على ما كان عليه هو وأصحابه؛ لأن هذا الاقتداء الكامل لا يتوجه إلا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو المنهج الكامل والصراط المستقيم. والتعبير النبوي بمفردة (العض) يشير إلى أمرين مهمين: أولهما: شدة الاستمساك، وثانيهما: مشقة الاستمرار والصمود، ولكون ذلك في غاية المشقة كانت العاقبة عظيمة وهي النجاة في الدارين.

إن الخطورة في الأمر هي كثرة الالتباس والاشتباه في الحق بعد غياب المشرع (رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأن انقطاع الوحي العاصم سيجعل الحق محلاً للاشتباه بغيره إلا على ذوي العلم والبرهان، وشاهد ذلك وأمارته بكاء الصحابية الفقيهة الراشدة أم أيمن رضي الله عنها بعد رؤية صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وذلك للمرة الأولى بعد انطفاء نور الدنيا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لما رأتهما بكت بكاء شديداً، ولما سألاها عن سر هذا البكاء وقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.

لقد كانت رضي الله عنها تدرك بفطرتها أن انقطاع الوحي يعني بداية هذا (الاختلاف الكثير)؛ لأن وجود هذا الرسول المعصوم بينهم ونزول الوحي المتتابع عليه يحسم مادة الجدل والجهل، فلا توجد منطقة وسط بين الحق والباطل، إما إن يكون الأمر حقاً وإما أن يكون باطلاً، هذه المنطقة تكبر وتصغير بقدر وجود العلماء الربانيين الكبار في المجتمعات، فكلما وجدوا وقاموا بما أوجب الله عليهم وكلفهم به صغرت هذه المنطقة أو تلاشت، وكلما غابوا أو ضعفوا حصل العكس: فتقلصت دائرة المحكمات واتسعت دائرة المشتبهات، وهو ما يحصل في كثير من المجتمعات. ولهذا فقد عظمت الشريعة قيمة العلماء الربانيين فأشهدهم الله على خير مشهود واصطفاهم بشهادتهم معه «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط»، وجعلهم صلى الله عليه وسلم «ورثة الأنبياء»، وذكر أنه «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

وفي آخر الحديث نهى صلى الله عليه وسلم عن محدثات الأمور وهو وتحذير من الإضافات على الشريعة، فلا يجوز أن يضيف المرء على الدين أمراً لم يشرعه صلى الله عليه وسلم، ذلك أن الدين كامل والوحي المشرع قد انقطع «اليوم أكملت لكم دينكم»، فمقتضى الإضافة تسديد النقص وإلا كان لا معنى لها، فأهل الإيمان واليقين لا يتعاملون مع الشريعة وفق أذواقهم وطبائعهم، ولا تدفعهم رغبات الجماهير وأهواء الدهماء إلى الإحداث والابتداع، فهم مستمسكون بالسنة مهما قل فاعلوها وهاجرون للبدعة مهما كثر واردوها، حاديهم في هذا ما روي في الخبر الصحيح عن إمامهم صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وما روي في الخبر الآخر: «ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة». عسى الله أن يسلك بنا سبيلهم وأن يثبتنا على نهجهم.

* عميد كلية الشريعة بجامعة القصيم