-A +A
هاني الظاهري
الحديث عن «صفقة القرن» هو فاكهة المقالات السياسية هذه الأيام، فالأطروحات عن هذه المسألة تتغذى بالمجمل على الأجواء المشحونة والمواقف الحادة من بعض الأطراف المعنية بالصراع العربي الإسرائيلي، ولعل من أبرز المقالات التي تناولت هذا الشأن بنظرة تشاؤمية مقال تحليلي لـ«رفائيل سانتشيز» نشرته صحيفة ديلي تلغراف البريطانية أخيراً، ذكر فيه أن خطة «جاريد كوشنر» للسلام في الشرق الأوسط انهارت قبل أن تبدأ.

واستند الكاتب في رأيه هذا إلى أن الفلسطينيين والإسرائيليين (وهما طرفا النزاع الذي صُممت الخطة لحله)، أعلنوا مسبقاً رفضهم حضور مؤتمر البحرين المقام برعاية أمريكية لعرض المنافع الاقتصادية الكبيرة التي يُفترض أن تعود على منطقة الشرق الأوسط في حال تطبيق الصفقة المقترحة من قبل واشنطن.


الآراء في العالم العربي تبدو في غالبها ليست بعيدة عن هذا الرأي، بل إن هناك جبهة رفض حاد للمشروع برمته (دون علم بتفاصيله) أغرقت وسائل الإعلام العربية بالتصريحات الرنانة منذ أشهر بدعم من بعض الأطراف المستفيدة من إطالة عمر هذا النزاع، ومدعومة أيضاً بما يمكن وصفه بـ«أزمة اصطلاحية لغوية» لم يتنبه لها الكثير من المهتمين بالأمر.

كلمة «صفقة» في الذهنية العربية تُفهم مباشرة كعملية بيع وشراء وهنا مربط الفرس، ففي القضية الفلسطينية تحديداً يرتبط مفهوم البيع والشراء بالعار والخيانة والتفريط بالحقوق العربية، لكن أحداً لم يسأل عن الأصل الذي تُرجمت عنه عبارة «صفقة القرن» وهل هي الترجمة المناسبة أم أنها ترجمة قُصد بها إيصال رسالة نفسية تدعو الشخص العربي لرفضها مباشرة!

لقد تم ترويج عبارة «صفقة القرن» في الإعلام العربي بشكل مكثف منذ أشهر لتكريس مفهوم البيع والتفريط والاتجار بالقضية الفلسطينية، بينما هي في الواقع ترجمة غير بريئة لعبارة Deal of the Century التي من الأصح أن تترجم إلى «اتفاقية القرن» فكلمة Deal في اللغة الإنجليزية لا تعني «اتفاقاً تجارياً» بشكل حصري، وإنما تعني اتفاقاً بالعموم على شيء ما، أي أنه كان يمكن من البداية أن تكون الترجمة «اتفاقية القرن للسلام»، لكن هناك من تعمد تكريس مفهوم «الصفقة التجارية» وانساق خلفه الإعلام العربي الذي يعاني من فقر كبير في مهارة قراءة وتفكيك وتوجيه الرسائل «النفسية اللغوية».

هناك علم حديث وممتع يسمى «علم التسويق النفسي» يعتمد في جانب مهم منه على اللغة ومهارة اللعب بالكلمات المترادفة فلكل كلمة مفهوم مرتبط باللاوعي ولا يصح استخدام كلمة في رسالة معينة بينما يصح استخدام كلمة مرادفة لها في نفس الرسالة، ذلك لأن الانطباع النفسي الذي تخلفه الكلمتان مختلف، وهذا أمر يغيب تماماً عن أذهان جهابذة إعلامنا العربي، بل قد يعتبره بعضهم ضرباً من ضروب الشعوذة أو فناً تافهاً لا أهمية له، ولذلك نبقى في مؤخرة الركب دائماً، فالإلمام بهذا العلم يُعد من المهارات الأساسية التي ينبغي أن يمتلكها الكاتب والإعلامي أو على الأقل قادة وسائل الإعلام الذين بيدهم دفة توجيهها وتوجيه الرأي العام بها.. وكل صفقة وأنتم بخير!

*كاتب سعودي

Hani_DH@

gm@mem-sa.com