-A +A
محمد مفتي
يلعب قطاع السياحة دوراً بارزاً على المستويين الاقتصادي والترفيهي، وغالباً ما تهتم الحكومات بالسياحة الداخلية بنفس القدر الذي تولي فيه الكثير من الرعاية لاستقطاب واجتذاب السياح من مختلف دول العالم، ولهذا الأمر أسباب عديدة، منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو ثقافي وإستراتيجي، وفي العديد من الدول -ومنها المملكة- تمثل السياحة الداخلية صمام الأمان للاقتصاد الوطني؛ حيث يظل بإمكانها دوماً تحريك عجلة الاقتصاد دون التأثر بنفس الشدة بالهزات التي تصاحب التغير في أسعار النفط أو في موارد الدولة الأخرى.

من المعروف أن السياحة هي قطاع متداخل ومتقاطع مع الكثير من القطاعات الاقتصادية الأخرى، التي تمثل روافد له كما يمثل هو مصدراً لها، والسياحة في جوهرها صناعة ومنظومة متكاملة من الأنشطة ذات الجوانب والأبعاد المتعددة، فالسياحة لا تقتصر على مجرد إنشاء مشروع سياحي هنا أو إقامة فعالية سياحية هناك، بل تتعلق بصورة رئيسية بنظام اقتصادي حديث ومتكامل، تراعى فيه الجوانب المالية وغير المالية بنفس الدرجة من الاهتمام، ويركز على الأنشطة المستقبلية بقدر ما يهتم بعمليات التطوير والتحسين المستمرة، ويتميز قطاع السياحة عن موارد الدولة الأخرى بإمكانية تنميته على نحو مستدام بحيث يصبح مورداً مالياً متجدداً يحمي الاقتصاد، ويمنع هروب رؤوس الأموال خارج الحدود.


خطت المملكة بالفعل بفضل قيادتها الحكيمة خطوات كثيرة في مجال تنمية السياحة الداخلية المستدامة، وتنشيطها على نحو يسمح باستغلال كل رقعة من أراضيها قابلة للتنمية السياحية، ولعل أهم هذه الخطوات هو تأسيس هيئات متخصصة لتنشيط السياحة الداخلية، وإنشاء قواعد بيانات دقيقة لحصر المنشآت السياحية والمشروعات الاستثمارية والمبادرات الخاصة بمجال التنمية السياحية، غير أن هناك عنصراً مهماً للغاية فيما يتعلق بمجال التنمية السياحية، وهو عنصر غائب بيد أن من شأنه الإسهام بقوة في تقدم هذا القطاع على نحو ملموس وملحوظ.

من الأهمية بمكان أن توجد آلية لضبط أسعار الخدمات السياحية، والتي يجب أن تتناسب بشكل عام مع متوسط دخول الأفراد المستهدفين في السياحة المحلية، فعلى سبيل المثال فقط لا الحصر توجد لدينا الكثير من المقاهي والمطاعم والفنادق والمنتزهات، لكن هل يستطيع المواطن العادي تحمل تكلفة خدماتها؟ فأسعار خدماتها مبالغ فيها، والكثير منها باهظ التكلفة على نحو يفسر استمرار هزال هذا النوع من السياحة، فمثلاً نجد أن دولة كاليابان لديها قطاع سياحة داخلي قوي، ولكنه أيضاً باهظ التكلفة، غير أنه يعكس تكلفة معيشة المواطنين اليابانيين المرتفعة، وبالتالي متوسط دخول اليابانيين تتناسب طردياً مع أسعار الخدمات السياحية المقدمة لهم، ولهذا فالكثير من السياح -من خارج اليابان- يعجزون عن توفير تكاليف القيام برحلات سياحية لليابان على الرغم من أنها دولة سياحية رائعة من الطراز الأول.

وعلى نحو عكسي، تتناسب أيضاً أسعار الخدمات السياحية في إندونيسيا مع متوسط دخول الإندونيسيين، فنجدها في متناول يد رجل الشارع العادي، وهذا الأمر هو العنصر الرئيسي لتنشيط السياحة المحلية، فالسياحة ليست مجرد ثقافة أو توافر أماكن أو أنشطة وفعاليات سياحية من عدمه، بل هو توافر الخدمات السياحية -بصورة عامة- عالية المستوى للمواطن العادي بأسعار تنافسية متلائمة مع مستوى دخولهم.

من المؤسف أن نجد تكلفة تأجير شاليه خلال أوقات الأعياد داخل المملكة تعادل تكلفة سفر أسرة مكونة من شخصين أو ثلاثة للخارج، فمن يتحمل تكبد تلك التكاليف العالية؟ ولِم يتوجه المواطن للداخل طالما بإمكانه السفر للخارج بنفس التكلفة وربما أقل، ولهذا فنحن بحاجة ماسة لتفعيل آليات ضبط ومراقبة أجهزة الدولة المختلفة والمعنية لأسعار الخدمات السياحية، ومن الجلي أن الكثير من الدراسات والتوصيات الخاصة بمجال التنمية السياحية لم تتطرق كثيراً لمدى أهمية هذا العامل، والذي تراءى لي بوضوح من خلال خبراتي التي اكتسبتها أثناء رحلاتي السياحية المتعددة.

من الأهمية بمكان تصميم وتطبيق آليات الضبط والرقابة على أسعار الخدمات السياحية حتى قبل تنفيذ المشروعات السياحية، ويتعين أن تكون أحد بنود دراسات الجدوى المهمة للمشروعات السياحية سواء تعلقت بالقطاع العام أو الخاص، فالخدمات السياحية المحلية تواجه بيئة تنافسية تفرض عليها تحسين خدماتها وخفض تكاليفها وتوفيرها بأسعار ملائمة، وإلا فسيستمر مسلسل نزوح المواطنين خلال المواسم السياحية للخارج، كما سيستمر مسلسل هروب الأموال المحلية، وسنفقد عندها مورداً اقتصادياً هاماً.

* كاتب سعودي

mohammed@dr-mufti.com