-A +A
طلال صالح بنان
• تقوم إستراتيجية حافة الهاوية على محاولة أحد أطراف الصراع، أو كليهما، بدفع الأمور إلى مرحلة متقدمة من التوتر، حتى ليبدو أنه: لا يُخشى معها احتمال نشوب الحرب. هنا: لا يمكن فهم الدفع تجاه الحرب (إستراتيجية حافة الهاوية) دون التهديد باللجوء لخيارها (إستراتيجية الردع ). وإن كانت مرحلة تبني إستراتيجية حافة الهاوية ترتفع أثناءها إمكانية نشوب الحرب، لتتجاوز مرحلة التهديد بها (الردع)، ليكون احتمال نشوبها، وشيكاً، بصورة أكثر توقعاً، وليس فقط ممكناً.

في الفترة الأخيرة شهدت منطقة الخليج العربي درجة متقدمة من التوتر، بين الولايات المتحدة وإيران، حبس فيها العالم أنفاسه، مخافة اندلاع حرب إقليمية كبرى، مع احتمالات تصعيدها إلى حربٍ كونية، في أخطر مناطق العالم توتراً، لم يسبق لقوة دولية عظمى أن تدخلت في صراعاتها، بصورة مباشرة، منذ الحرب العظمى. صحيح إدارة الرئيس ترمب لم تصرح مباشرةً أنها تهدف لإحداث تغيير جذري للنظام في طهران، إلا أن الولايات المتحدة مازالت متمسكة بإستراتيجية قديمة، منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق (جورج بوش الأب)، حيث سمى ٢٩ يناير ٢٠٠٢ دولاً بعينها (إيران العراق كوريا الشمالية) كونها مارقة، ترعى الإرهاب. كما أن الولايات المتحدة لها في عنقِ نظامِ الملالي في طهران ثأر «بائت» منذ أزمة رهائن السفارة الأمريكية في طهران ( ٤ نوفمبر ١٩٧٩ - ٢٠ يناير ١٩٨٠).


ثم إن إدارة الرئيس ترمب، بداية التصعيد الأخير مع طهران، الذي كان قد سبقه إلغاء الولايات المتحدة، من جانبٍ واحدٍ، للاتفاق النووي (الخماسي) مع طهران، قد قدمت على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو، في جولة له بالمنطقة شهر يناير الماضي، شروطاً، من شأن القبول بها، إسقاط نظام الملالي. وزاد من ضغط واشنطن على طهران إعادة نظام العقوبات الاقتصادية عليها، ومعاقبة من يخرق هذه العقوبات، حتى أن هذه العقوبات وصلت لمحاولة «تصفير» صادرات النفط الإيرانية.

لقد وصلت درجة التوتر بين طهران وواشنطن أوجها خلال الأسبوعين الماضيين، حينما واصلت واشنطن ضغوطها الاقتصادية والعسكرية على طهران، في مواجهة تصعيد موازٍ من قبل طهران، التي لم تكتفِ برفض التهديدات الأمريكية، بل أقدمت على تهديدات من جانبها، باحتمال إغلاقها لمضيق هرمز، في حال منعها من تصدير نفطها. بل إن طهران انتقلت إلى مرحلة متقدمة من التصعيد، عندما حاولت اختبار مدى تنفيذ واشنطن لتهديها بـ«تدمير» إيران رسمياً، كما جاء في «تغريدة» للرئيس ترمب: إن هي أقدمت على تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، عندما أقدمت بنفسها أو عن طريق وكلائها في المنطقة بالهجوم على ناقلات نفط في الخليج.. وعلى منشآت نفطية تابعة لشركة أرامكو.

في هذا الجو التصعيدي للأزمة، من الجانبين الذي دفع العالم لحبس أنفاسه خوفاً من اندلاعِ حربٍ إقليمية كبيرة في المنطقة مع احتمالات انتشار لهيبها إلى مناطق أوسع من العالم.. وفي خضم دفع الطرفين للإمورِ إلى حافة الهاوية.. واتباعهما لمعادلة صفرية في إدارة الأزمة، يُفاجأ العالم بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب يعلن من طوكيو، أن بلاده لا تريد الحرب.. والأكثر أن إدارته لا تسعى لتغيير النظام في طهران.. بل أكثر من ذلك يتطلع لتعاون مثمرٍ مع طهران لحل المشكلات العالقة بَيْنهمَا! تحولٌ يكاد يصل إلى ١٨٠ درجة في الموقف الأمريكي، يؤكد على ما ذهب إليه البعض بأن الحرب لن تنشب في المنطقة، رغم دفع الأمور لحافة الهاوية.

كما أن الأمر لم يُتوقّف عند التخلي عن إستراتيجية حافة الهاوية، بل إستراتيجية الردع أيضاً. الحرب، لم تعد وشيكة الوقوع، بل لم يعد خيارها مطروحاً، أصلاً. الرئيس ترمب، رغم حدةِ خطابِهِ، وأحياناً قسوته بصورة مستفزة، إلا أنه ليس برجلِ حرب. هو رجل أعمال محترف، يراهن على الربح.. ويعرف تماماً أن الحربَ خيارٌ خاسرٌ في النهاية، من الناحية السياسية والاقتصادية. هو يريد استمرار حالة الانتعاش الحالية في الاقتصاد الأمريكي، ليجني سياسياً هو وحزبه منها، في انتخابات العام القادم الرئاسية والتشريعية.

وإن كان الرئيس ترمب، بتخليه عن إستراتيجيتي الردع وحافة الهاوية في أزمة الخليج العربي الأخيرة، قد أرسل رسائل خاطئة لحلفائه. بل إن تخلي الرئيس ترمب عن أهداف إدارته للأزمة الأخيرة مع طهران، بتقليصها لمستوى ضمان عدمِ امتلاكها للرادع النووي، ولو مرحلياً.. وربما إطلاق السجناء الأمريكيين (الستة) المحتجزين في طهران.. مع بقاء باقي الأهداف الأخرى مؤجلة أو حتى التخلي عنها، مثل: محاربة التمدد الإيراني في المنطقة.. ووقف إجراءات اعتبار طهران دولة راعية للإرهاب.

هذا التحول «الدراماتيكي» في موقف الرئيس ترمب وإدارته (المتذبذب)، من الأزمة الأخيرة في منطقة الخليج العربي، من شأنه أن يثير مخاوف حلفاء واشنطن في المنطقة، بأن أمنهم لا يعني واشنطن في شيء. حتى جهود الرئيس ترمب الحثيثة لتمرير صفقات الأسلحة للمنطقة، رغم إرادة الكونجرس، لا تأتِ بالأمان المنشود، بقدر ما تعكس مدى جشع وطمع الرئيس ترمب وإدارته في ثروات المنطقة، وليس تطلعاً حقيقياً لتلبيةِ احتياجاتها الأمنية.

أحياناً: عندما يسقط الخيار العسكري والتهديد باللجوء للحرب، من معادلة الصراع، يسقط معه عائده السياسي والأخلاقي، وبالتبعية: ترتفع معدلات التوتر وعدم الاستقرار إلى مستويات متقدمة من القلق (الأمني) على السلام.

* كاتب سعودي