-A +A
طارق فدعق
خلال هذا الشهر الكريم، يزداد إدراكنا بروائع النعم، وبالذات النعم الغذائية مهما كانت بسيطة. ولكن هناك ما يتطلب التأمل الأكبر ألا وهو الطبخ الذي حقق الخروج بتلك النعم الجميلة بحلتها الجميلة التي تداعب الأحاسيس.. من الشكل الجميل، والرائحة العطرة الفواحة، والملمس الرائع على الجلد وبداخل الأفواه، والصوت الرائع وخصوصا لو كانت هناك قرقشة، وأخيرا الطعم اللذيذ. وسبحان الله أن طبخ البيت فيه كمية حب تشعر بها قبل، وأثناء، وبعد الاستمتاع بالوجبات. وكلما أكلت وجبة في البيت أشعر برغبة شديدة في تقبيل يدي والدتي. وفي أيام زمان كانت هناك تحديات كثيرة لا يدرك مخاطرها أجيال اليوم ومن أهمها النيران. التعامل مع النار كان من أساسيات الطبيخ، ولم يكن مجرد فتح مجرى الغاز لرفع الحرارة تحت أواني الطبخ. الموضوع يحتاج لوقفة سريعة: علاقتنا التاريخية بالنار كانت من أسس ولادة العلوم وفي مطلعها علما الفيزياء والكيمياء. أدرك البشر أن الاحتراق له أصوله، وأن أنواع الوقود المختلفة تنتج النيران المختلفة في خصائصها، وأن كل شعلة لها مكوناتها: الجزء الأزرق هو الأكثر سخونة، والجزء البرتقالي هو الأقل. ولكن من الطرائف أن العلماء القدامى كانوا يعتقدون أن النار هي أحد مكونات المادة وأطلقوا عليها اسم «فلوجستون» على وزن «فله وبسطون» ومعناها باللغة اليونانية «يولع» أو «يشعل». وكانت الولعة هي التجسيد لإطلاق تلك المادة الوهمية، وأصبحت من الأركان الأساسية العلمية لتعريف خصائص المواد وانتقال الطاقة. المشكلة الأساسية هنا هي أن لا وجود لها بالمرة، لا من قريب ولا بعيد. طبعا أي شخص يقول ذلك كان في قديم الزمان كان يعتبر في أعمق درجات الانحطاط العلمي. الشاهد أن هذا الموضوع استمر إلى أن اكتشف العالم الإنجليزي «بريسلي» وجود غازات غير متوقعة أثناء الاحتراق وشارك النتيجة مع العالم الفرنسي الفذ «لافوازييه». ولما كان الغاز المسؤول عن الاحتراق مولدا للطعم المر في بعض المأكولات بسبب التفاعلات مع البكتيريا، فأطلق هذا العالم الفرنسي اسم «مولد المرارة» oxy-gene «أوكسي جين» وهنا تغير مفهوم الولعة تماما بظهور مفهوم الاحتراق والأكسدة، واختفى «الفلجستون» إلى الأبد من عالم العلوم بنهاية القرن الثامن عشر. وإحدى العجائب في قصتنا أن «جزاء المعروف سبعة كفوف» كما يقولون، فكانت إحدى أهم مكافآت فرنسا لعالمها العبقري «لافوازييه» الذي فتح أبواب العلم على عشرات الاكتشافات المهمة هي القص... يعني قص رقبته بالكامل أثناء فورة جنان الثورة الفرنسية بتهمة أنه كان يجمع الضرائب ضد الشعب... وكده يعني...

أمنيــــة


هناك ما هو أهم من هيصة «الفلجستون»، والولعة، والاحتراق، والشعلة، والنار الزرقاء والحمراء، وروائح الوقود. بدأت المقال بمطابخ أهل أول وكمية العناء الرهيب الذي كان تبذله السيدات لتحضير السفرة الرمضانية بحب، واحترافية، وبدون أي شكوى لتخرج بالشكل الرائع الذي نتذكره. وهذا بالرغم من الحرارة الهائلة والولعة هنا وهناك من الدوافير الخطيرة، والمصادر الخطيرة الأخرى للنار. أتمنى أن نتذكر لهم كل ذلك العناء، وأن نقدرهم بالحب والعرفان وتقبيل أياديهن الكريمة. ومن لا يشكر أقرب الناس لا يشكر الله،

وهو من وراء القصد.

* كاتب سعودي