-A +A
رامي الخليفة العلي
جرت خلال الأيام القليلة الماضية الانتخابات على مستوى البرلمان الأوروبي، وكما كان متوقعا، فقد حققت أحزاب اليمين الشعبوي تقدما على المستوى الأوروبي، وارتفع عدد المقاعد التي يحتلها في البرلمان من 142 إلى 172، في سياق تقدم اليمين في كل المناسبات الانتخابية، سواء على المستوى الأوروبي أو على المستوى الوطني فإن أحزاب اليمين المتطرف لا تتحكم في أكثر من دولة أوروبية سواء في إيطاليا أو النمسا أو المجر وحسب وإنما اليمين المتطرف يتحول إلى الأحزاب الثانية أو الثالثة في كل من فرنسا وهولندا وألمانيا وبريطانيا.

لعل السؤال الذي يجدر طرحه هو لماذا يتقدم اليمين المتطرف على المستوى الأوروبي وحتى على المستوى الوطني في كل دولة أوروبية على حدة؟ في الإجابة عن هذا السؤال من الملاحظ أن هنالك موجة يمنية تضرب في مختلف قارات العالم. فعلى سبيل المثال لا الحصر دول أمريكا اللاتينية انهارت فيها الحكومات اليسارية سواء في الأرجنتين والبرازيل أو غيرها من الدول وتقدم اليمين واليمين المتطرف. مقابل ذلك شهدنا أيضا تقدما لليمين القومي في الهند، كما يمكن وصف الرئيس الأمريكي ترمب أنه ينتمي إلى يمين الحزب الجمهوري من خلال أطروحاته المتعددة. أضف إلى ذلك أن هنالك تمظهرا لليمين في روسيا مع الرئيس فلاديمير بوتين وفي تركيا مع رجب طيب أردوغان، وبالتالي بشكل عام وبغض النظر عن خصوصية الواقع الأوروبي هنالك موجة يمينية تكاد تشمل العالم برمته، إذا ما عدنا إلى القارة الأوروبية يمكن أن نلاحظ بسهولة أن هنالك ردة فعل على مستوى الشارع الأوروبي على العولمة من جهة وعلى نموذج الدولة الوطنية والدولة الحديثة التي تكرست بعد الحرب العالمية الثانية، الدولة متعددة المذاهب والأعراق، دولة المواطنة، تلك العولمة التي ظهرت عقب نهاية الحرب الباردة ساهمت بشكل كبير في محاولة تعميم النموذج الليبرالي من الناحية الاقتصادية وكذلك من الناحية الاجتماعية. بالطبع فإن الفشل والتعثر الذي تعرض له هذا النموذج لم تكن بدايته في النموذج الاجتماعي بقدر ما كانت في النموذج الاقتصادي الذي تجلى في أزمة العام 2008، مما انعكس على التجلي الاجتماعي للعولمة. وبالطبع كان لابد من البحث عن كبش فداء، فكانت الشرائح الأكثر ضعفا، ونقصد المهاجرين والأقليات، هي في مرمى سهام الناقدين للعولمة ونموذج الدولة سالف الذكر. الانقلاب على العولمة تجلى بالعودة إلى حدود الهوية الوطنية والوقوف بوجه الهوية العالمية التي أرادت العولمة تكريسها من الناحية الثقافية ومن الناحية الاقتصادية والتي هي نقيض الهوية الوطنية التي كادت تنمحي خلال العقدين الماضيين، ومن هنا هذا العداء للجاليات الأجنبية ومجتمعات المهاجرين باعتبار هؤلاء يمثلون الآخر، الآخر الديني والآخر القومي والآخر العرقي، وبالتالي كلما زادت الأزمة الاقتصادية كلما ارتفع خطاب الإسلاموفوبيا وارتفع الخطاب المعادي للمهاجرين.


إذا كانت هذه هي السمات العامة التي تميز اليمين الشعبوي في عديد الدول على مستوى العالم، فإن اليمين المتطرف في القارة العجوز كانت له خصوصية باعتبار أن العولمة في القارة الأوروبية ظهرت بشكل أساسي متمثلة بالاتحاد الأوروبي ومؤسساته. وبالتالي كان الاتحاد الأوروبي هو النقيض للهوية الوطنية التي نُظر إليها باعتبارها نقيضا للعولمة كما أسلفنا، إذا كانت العولمة تعني انفتاحا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وهوية جامعة على المستوى الدولي فإنها في أوروبا أخذت بعدا آخر تجلى بالمؤسسات الأوروبية، لذلك من الطبيعي والمنطقي أن الخطاب المعادي للعولمة الذي نشهده في معظم دول العالم هو نفسه الخطاب المعاد للاتحاد الأوروبي على مستوى أحزاب اليمين المتطرف الشعبوية في القارة العجوز. أضف إلى ذلك أن أوروبا تقع بين نموذجين لليمين الشعبوي، الأول وهو لدى الحليف التقليدي للدول الأوروبية نقصد به الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني على الجانب الشرقي لدى الاتحاد الروسي العدو التقليدي للدول الأوروبية.

تقدم اليمين المتطرف خلال كل المحاولات الانتخابية سواء على المستوى الوطني وكذلك على المستوى القاري، ولكن الأحزاب الجمهورية حزب كما تسمى والتي تنتمي إلى يسار الوسط ويمين الوسط تشعر بأن الموقف أصبح حرجا، لأن اليمين الشعبوي لا يهدد فقط تلك الأحزاب التقليدية التي ارتكبت الكثير من الأخطاء ولكن يهدد نموذج الدولة برمته. لذلك شاهدنا تحذيرات متوالية من قبل قادة ومسؤولين أوروبيين بأن تقدم اليمين المتطرف سوف يهدد نموذج الحياة والقيم الأوروبية ولكن هذه التحذيرات وحدها لا تكفي لأن مؤسسات الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى إصلاح، ولكن وعود المستشارة الألمانية كما وعود الرئيس الفرنسي في محاولة إصلاح هذه المؤسسات ولكن كل هذه الوعود ذهبت أدراج الرياح وعمقت هذه القيادات من شعور عدم الثقة لدى فئات واسعة من المجتمعات الأوروبية بالطبقة الحاكمة والمؤسسة التي حكمت أوروبا على امتداد العقود الماضية، على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبالتالي هذا كله كان يصب في مصلحة اليمين الشعبوي واليمين المتطرف، من المؤكد أن هذا الأخير استطاع أن يفرض نفسه جزءا من المعادلة السياسية دون أن يستطيع التحكم بها. إذن سوف تستمر المعركة الأيديولوجية والسياسية بين أقطاب الطبقة السياسية على المستوى الأوروبي خلال السنوات القادمة مع اليمين المتطرف وليس هنالك من إمكانية لحسم هذا الصراع خلال أمد قريب.

* باحث في الفلسفة السياسية، خبير في قضايا الشرق الأوسط

ramialkhalife@