-A +A
فؤاد مصطفى عزب
أدب الاعتراف، فن من فنون الحياة، عرفته شعوب كثيرة قبلنا منذ زمن بعيد، ويبدو أننا لحقنا الركب، حيث اعترف البعض منا بما فعلوا، وبلا شفقة بجرائم العصر، وفي تصريح ملحمي ضمن برنامج ما يطلبه المشاهدون، وأن يعترف شخص من الشخصيات الاجتماعية المشهورة بأسراره وممارسته، فذلك يعني أنه يضيف لحياتك أكثر من حياة، فاللحظات التي عاشوها بصدق، والأحداث التي أثرت في ذواتهم وجعلت منهم شيئا ما، هي التي جعلتهم قادرين على التأثير في الآخرين عبر تجاربهم وخبراتهم، ويرى البعض أنه يصعب الاعتراف بكل شيء، بل إن هذا الاعتراف قد يؤدي إلى مشاكل أسرية وقطع رحم، كما حدث في مذكرات الدكتور جلال أمين في «رحيق العمر» و«ماذا علمتني الحياة» وكذا في «شبابيك مفتوحة» مذكرات الدكتور «شريف حتاته» والثاني هو زوج الدكتورة نوال السعداوي. ويرى آخرون أنهم يفضلون أن يروا هذه الشخصيات الاجتماعية في إطار الكمال، كنجمة وحشية الأضواء تلمع في السماء، ومن هنا فالإنسان العادي رجل الشارع يصعق عندما يكتشف في هذه الشخصية عطبا لم يتوقعه، أو يستمع لاعتراف منه يذهب بجاذبيته ويفسد المكياج ويتحول الإعجاب إلى ضيق وغضب، تقول الأديبة غادة السمان في كتابها «حب» «عندما أعطاني أبي مذكرات أمي لأقرأها رفضت أن أفتح المذكرات، لم أكن أريد أن أراها تجوع وتغضب كالآخرين»، وتوفيق الحكيم لم يكن مجاملا عندما أعترف في «سجن العمر» كيف تم التعارف بين والديه والتناقض الذي عاشه في حياته بين والدين أحدهما متعلم صارم شديد في التعامل، وأم لم تكمل تعليمها وتؤمن بالجن والعفاريت، مشيرا إلى أن هذا التناقض أثر في شخصيته وتصرفاته، ويتضح ذلك في قوله «إن مالا يحل بالقلب، يجب أن يحل بالجنون» أما نزار قباني، فيصف اعترافاته ومذكراته على أنها نوع من أنواع غريزة حفظ البقاء، ومحاوله لإطالة العمر، ولو على الورق، فيقول «كلما اشتبك الإنسان بتفاصيل الحياة اليومية، كلما شعر بالحاجة إلى تسجيل ما حدث معه، فالإنسان ذو ولع غريب بكتابة يومياته واعترافاته، وله في ذلك لذتان، لذة في أن يعيش التجربة، ولذة في أن يكتب عنها ويمنحها شكلاً، وبذلك يكون قد غاص في لحم الحياة» ويعترف نزار بأنه كان يبحث مثل شهريار عن امرأة تحبه لذاته، لا لكونه شاعرا معروفا تحيط به الخرافات والأساطير من كل جانب، ثم يقول بيته الشعري في صراحة مؤلمة تعبر عن معاناته «أحببتني شاعرا طارت قصائده.. فحاولي مرة أن تفهمي الرجل» ثم يدافع عن شهريار فيقول «إنه كان فنانا وإنسانا وكان، وهذه هي النقطة المهمة في شخصية أحادي النظرة في الحب» كان يبحث في أعماقه عن امرأة واحدة تحبه لا لأنه ملك، ولا لأنه صاحب قوة وسلطان ولكن لذاته، وهلين كيلر الأديبة الأمريكية الشهيرة، اعترفت في كتابها «قصة حياتي العجيبة» أنها كانت محل رعاية مكثفة من أسرتها حتى بلغت عامها السابع، فقد منحتها عائلتها قدرا كبيرا من الحرية في نطاق البيت، حرية بدون ضوابط مما انعكس بالسلب على أسلوبها وتصرفاتها، فكل ما حاول أحد من أفراد أسرتها أن يحول بينها وبين ما ترغب فيه كانت تصاب بنوبة عصبية شديدة وتدمر كل شيء أمامها وتمزق ملابسها وذكرت السيدة صاحبة الفضل في ترويضها، وإطلاق ذكائها الحبيس «أن سوليفان» وتستمر في اعترافاتها الحساسة في الكتاب والشخصية والحميمة جدا والتي تكشف أشياء مبهمة في حياة كاتبة أشغلت العالم بموهبتها الفذة وحتى توفيت في 1968م و«شارلي شابلن» الرجل ذو القبعة والجاكت والمشية الغريبة، عند قراءة مذكراته نتعرف لماذا كان صامتا في حياته، يقول عشت وحدة عميقة بعيدا عن أمي وأخي، ويتحدث عن الظروف الصعبة التي عاشها مع والديه، الحزين الذي أضحك الملايين، يتحدث عن حبه الضائع، فيقول «أحببت راقصة باليه، وارتبط قلبي بها، وطلبت الزواج منها، فرفضت، فقلت لها سأتوقف عن رؤيتك، فوافقت معتذرة، وكان هذا الاعتذار على حد وصفه سكينا تم غرسه بقلبه، لكنه ظل يذهب للشارع الذي يوجد فيه منزلها، ربما يراها مرة أخرى، لكن دون جدوى»، وأنا سأتوقف هنا، حيث إن قصص أدب الاعتراف تحيط بنا وتطبق علينا كالرمال المتحركة، من محمد شكري إلى نيلسون مانديلا وقصة حياته الأسطورية، وكتابه «رحلتي الطويلة من أجل الحرية»، رمال لا أرغب الخروج منها، كوني عاشقا متيما أجد فيها متعة بعيدة وبهجة ضنينة، ولكن هل كل الرمال المتحركة أمكنة للموت؟ أم هي شيء آخر!! وهل بإمكاننا أن نجعل منها أمكنة للهو أيضا كما فعل «رامز وهو يأكل الجو»، يغوص أحدنا فيجذبه الآخر، تغطي المياه رأس أحدهن فنفزع ويصيبنا الهلع، ثم يخرج رامز ضاحكا معتذرا، كأنه يحاول أن يقول لنا إن بعضا من «أدب الاعتراف»، هو لعبة لا أكثر يحددها الموقف والزمان والمكان، ومن المفترض ألا نقطب الجبين، ونرفض كل تلك الألاعيب السخيفة والتي تنتهي بصفعة أو ركلة..من يعلم.. المهم أن يصدقك الناس !

* كاتب سعودي


fouad5azab@gmail.com