-A +A
طلال صالح بنان
يُثار، هذه الأيام، جدلٌ حول مبادرة سلام متوقعٌ الإعلان عنها، قريباً. بدايةً: يصعب منهجياً، قبل الإعلان عنها رسمياً، تناول هذه المبادرة، بصورة موضوعية رصينة، لاستشراف فرص نجاحها.. والخوضُ في إمكاناتِ تطبيقها، عملياً. إلا أنه من الناحية الافتراضية البحتة، يمكن (تحليلياً) تناولَ ما يترددُ من تسريبات لهذه المبادرة، قبل الإعلان الرسمي عنها.. وتتبعَ ردودَ أفعالِ المعنيين بها.. وقياسَ مدى جِدّيةِ الطرف أو الأطراف المتبنية لها والمتحمسين لها، وتلك المعنية بها، مباشرةً أو بطريقة غير مباشرة.

في الساحة يتردد، إعلامياً، عنوانٌ مثيرٌ لهذه المبادرة: «صفقة القرن». هذا العنوان، قديمٌ نسبياً، وإن كان يتردد في استخدامه.. وأحياناً، يتنكر له من قالوا به، بداءةً. إلا أنه: في الفترة الأخيرة أخذ هذا المُصطلحُ يترددُ بقوة، مُصَاحَباً بتسريباتٍ... بل أحياناً، بتحركاتٍ شبه رسمية، مثل: ما أُعلنَ مؤخراً عن إقامةِ «ورشةِ عملٍ» في المنامة، الشهرُ القادم، تحضرها وفودٌ رسميةّ وغير رسميةٍ، للبحث في سبلِ إيجاد حلٍ للقضية الفلسطينية، يوقفُ «معاناةَ الشعبِ الفلسطيني الإنسانية».. والبحثِ عن سبلِ إنهاءِ حالةِ الصراعِ المزمنِ في المنطقة.. واستشرافَ فرصَ تعاونِ أطرافه.


من الناحية التحليلية المنهجية البحتة، يمكن الزعمَ، بثقةٍ كبيرةٍ، أن مثل هذا المشروعِ، إن هو ظهر رسمياً إلى النور، بالصورةِ التي يُتردد بها هذه الأيام، يُعدُ من أضعفِ المبادرات، للساعة.. ولن تتمتعَ المبادرةُ بأيِّ فُرَصٍ حقيقيةٍ لتمريرها... دعك من الزعمِ: بإمكانيةِ نجاحها.. واستحقاقها لمخاطرةِ رهانِ متبنيها.. أو مَنْ يتحمس لها.

من أهمِ مثالبِ، هذه المبادرة، تصديها لمشكلةٍ سياسيةٍ بنهجٍ وأدواتٍ غير سياسية. ثم إن هذه المبادرة، بفرض أنه تم الإعلان عنها رسمياً، سبقتها إجراءات ومواقف من قِبَلِ مَنْ يُتردد بأنه وراء تبنيها، لا تتجاهل فقط البعد السياسي للأزمة، بل تقفز عليه، لدرجةِ محاولةِ تصفيةِ عناصره وهدم أركانهِ من أساسها. بالإضافةِ إلى أن هذه المبادرة «الشبح» تقفز على ثوابت ومرجعيات ساهم مَنْ يروجُ لها، نَفْسُه، في المشاركة بصياغتها، بل وبعضها، تبناها شخصياً، مثل: حل الدولتين.

أخيراً، وليس آخِراً، طالما أننا نتكلم عن صفقةٍ، فإننا نتحدث عن طرفين وقطبين رئيسيين لها. الطرفُ المباشرُ المعنيُ بها (الفلسطينيون)، لم يشارك في صياغتها.. ولا في مناقشاتها، ولا حتى دعوَته لأخذِ رأيهِ والتعرفِ على مطالِبِهِ منها وتوقعاته من نتائجها... دعك الزعمَ: بضرورة تعاونه في نجاحها، أو حتى ضرورة وجوده، ولو صورياً، في إطارِ صورةِ لقطةِ الإعلانِ عنها.

القضية (الأم)، التي يتصدى متبنو مبادرة «السلام» المزمع الإعلانُ عنها قريباً، بعيدة كل البعدِ عن إمكاناتِ استشرافِ نجاحِها.. أو حتى أخذُها بعينِ الاعتبارِ والجدية. القضيةُ، في الأساسِ سياسيةٌ بامتياز، وإن كان قد تولد عنها مع مرورِ الزمنِ مآسٍ إنسانية.. وكوارثَ مادية.. وعقدةَ ذنبٍ توخزُ ضميرَ الإنسانيةِ، لأكثرَ من سبعةِ عقود... في الوقت التي تعكس، هذه القضيةُ، خللاً خطيراً في قدرةِ وإرادةِ النظام الدولي الذودُ عن قيمهِ.. وصدقيةِ توجههِ لسيادةِ السلام العالم.

الشعبُ المعنيُ أولاً وأخيراً، بهذه القضية الأممية الشائكة، لم يشك (يوماً) مأساته لأحدٍ.. ولم يستجد (أبداً) خلاصَه من أحدٍ... دعك من توقعَهُ جلادوه، بذرف دموع التماسيح، نحيباً على نكبتِهِ. المسألةُ بالنسبةِ لهذا الشعبِ: ليست في رفعِ المعاناة عنه، بإرادةِ من اضطهده.. وشتته في أرجاء المعمورة.. واستولى على أرضه.. ونزع عنه هويتَه الوطنية.. ودنسَ مقدساتِه.. وسرقَ ثقافتَه وتاريخَه، بعد أن اغتصبَ أرضَه. ما يُطالِبُ به الشعبُ الفلسطيني، ليس بِدَعاً.. ولم يكن (يوماً) أكثر مما طالبَ بهِ كلُ شعبٍ حرٍ وناله، بنضالِهِ: أن يكون له وطناً، يعيشُ فيه حراً، بدولةٍ مستقلةٍ تعكس هُوِيَّتِهِ الوطنية.. وترمزُ لسيادَتِهِ حكومةٌ وطنيةٌ، تَحْكُمُ بإرادَتِهِ وتكون واجهةَ استقلالهِ وعنوانَ وحدَتِهِ... لا أكثر.

ما يُثار، هذه الأيام، من قربِ الإعلان عن مبادرةِ سلامٍ، في صيغةِ صفقةٍ للقرن، يغيببُ عنها طرفها الأساس، هي ببساطة: محاولة لاغتيالِ قضيةَ شعبٍ حُرٍ فشلت كل محاولات إطفاء جذوةَ النضالِ في ضميرِه ووجدان أمته.. كما فشلت كل محاولات اختراق تعاطفَ شعوبِ العالم الحرة، مع قضيتِه.. ومحاولةِ أحرار البشرِ، مساعدته لتحقيق هدفه السياسي من نضالِه، بكل الوسائل الممكنة، بما فيها مساعدته تجاوز مأساته الإنسانية، التي يظهر عدوه فجأة، ليزايد عليه بها.. ويساومه عليها.. ويبتزه، بمواصلته حصاره وتجويعه والعبث بأمنه.

من هم وراء مبادرة «السلام» هذه أو المتحمسون لها، يعرفون مسبقاً أنها لن تُقبل من قبل أصحاب قضيتها.. ولن تحظَ بقبولٍ ومباركةٍ شعبيةٍ، لا في المنطقة، ولا من أحرارِ العالم.. وأنهم لن يفعلوا أكثر من بذرِ بذرةٍ في أرضٍ سبِخةٍ، لا تُنْبِتُ شجراً.. ولا تَجْنِي ثمراً. الخطورة تكمن ليس في محاولة وضعِ العربةِ أمامَ الحصان، بأن يتقدم الاقتصادي على السياسي، إنما في ما يُخبئهُ متبنو هذه المبادرة (المستحيلة)، عند الإعلان عن فشلها أو التخلي عنها، من بدائل أكثر خطورة وعنفاً، لتصفيةِ القضية جذرياً، ومعها اغتيالُ السلامِ في أرضِ الرسالات.

لا أحد ضد حل سلمي لأعقد قضايا المنطقة والعالم. لكن السلام لا يتأتى بالقفز على قوانين الطبيعةِ ومنطق السياسة. فيزيائياً، كما هو سياسياً، لا يمكن توقع أن تدفع العربة الحصان.

العربةُ لتتحركَ في حاجةٍ لطاقةِ الحصان.

* كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com