-A +A
عبده خال
حركية المجتمع هل تكون مدركة أم عاطفية؟

وقبل أن نصطف في أي الحزبين نكون كإجابة، يمكن الذهاب إلى أن الإدراك عملية تتمثل في مجموعة من الأفكار بلغت درجة الحقيقة عند المدرك، وتصبح تلك الحقيقة هي جوهر وجود المدرك، ويمكن له أن يموت دفاعا عنها، ما لم تصله حقائق جديدة تقوض القناعة التي اعتبرها حقيقة ذات يوم، أي أن الإدراك يكون متغيرا وفق معطيات مستحدثة كشفت عن خطأ اليقين السابق، ويحدث هذا التغير بتغير الظرف التاريخي بجميع عناصره، فما كان سائدا كحقيقة تأتي العوامل الواقعية كاشفة عن زيف ما كان، فيصبح الإدراك قابلا للتغير بحلول حقائق نافية لما سبقها.


أما المرء العاطفي تشوب اتخاذه للقرارات الجانب المبقي على ما تعود أو ألف عليه كاستقرار نفسي، وأي فعل أو قول يمس السائد والمحبب لديه يثور عليه مع الثائرين المطالبين ببقاء ما هو قائم، والإدراك عنده لا يحتاج إلى ظهور حقيقة تنقض الحقائق التي عاش بها وفيها، وبهذه المفارقة بين الإدراك والعاطفة حدث في الأسبوع الفائت انشطار الآراء بين الناس حول اعتذار الدكتور عائض القرني وبين ما أحدثته الصحوة من دمار ليس دمارا محليا فقط، بل دمارا طال العالم الإسلامي مجتمعا، ومن النتائج الوخيمة للصحوة إلصاق الإرهاب بالدين الإسلامي، وحالات التشدد التي تنامت خلال العقود الماضية انبثقت منها جماعات إسلامية حركية بدءا من ظهور القاعدة وداعش كعنصرين رئيسين في الجمعات الحركية (مثلت لهما جماعة القداحة التي أشعلت الحرائق) وأوصلتنا إلى ثورات الربيع العربي التي أسهمت في سقوط دول عربية ولازالت تبحث عن إسقاط الدول التي نجت من ذلك الدمار.

فهل يمكن اعتبار (اعتذار) لم يستغرق الدقيقتين ماحيا لكل تلك الويلات، ماحيا لكل الدماء التي سكبت.. ماحيا لكل الأموال المهولة التي انفقت لتدمير الإنسان المسلم والدول المسلمة وإدخال الأمة في نفق لم تخرج منه إلى الآن..

كما أن اعتذار الدكتور عائض القرني هو اعتذار شخص من مجموعة آلاف من مشايخ الصحوة الذين قادوا الأمة لويلات عظيمة لن تصفو سمعة المسلم لعشرات السنوات من الإرهاب الذي ألصق به..

فأين أولئك الآلاف عن الاعتذار، لماذا لا يعتذرون للأمة التي قادوها إلى الاحتراب الدائم؛ احتراب بين الأفراد.. احتراب بين الدول.. احتراب بين المذاهب.. احتراب في المفاهيم. الكل قادنا إلى جميع أنواع الاحتراب لتسقط دول ويقتل ويشرد الملايين، وتدمير كل المكتسبات العربية، ومع كل الويلات تلك عملوا على تغييب الإنسان المسلم من أن يكون مشاركا في بناء الحضارة الإنسانية بمنع تعلم العلوم التطبيقية أو الفلسفة أو اللغات، شحنوا شباب الأمة برسالة واحدة، الجميع أعداء للدين، ليس المغاير بل المماثل لك في الدين والمذهب أيضا، ولم تعد المذاهب الإسلامية آمنة على نفسها أو أفرادها.. الكل تحول إلى عدو.. فهل يمحو اعتذار الدكتور عائض القرني عن كل هذا الدمار؟

أما ظهور الجانب العاطفي لدى الكثيرين من الناس باعتبار الاعتذار جازيا فهذا يعطينا دلالة أن الإدراك لم يصل بعد إلى شرائح اجتماعية كبيرة، وكان بالإمكان أن يكون اعتذار الدكتور عائض أشبه بالثقب الذي أصاب سدا خرسانيا منيعا حوى وأحاط بقناعات متشددة أهلكت الأمة، كان الاعتذار دافعا لإيصال الإدراك لكل شخصية عاطفية بأنها تقف على حقيقة جديدة تسفه ما كنا عليه من تشدد ونبذ.

واعتذار شخص واحد من آلاف الشخصيات لا يعد اعتذارا عن المجموع، فأين هم من أسسوا الإرهاب ودفعوه قدما؟، وأين هم من حرضوا على القتل؟ وأين هم من دفع بالشباب إلى ما أسموه جهادا؟ وأين هم من ملأوا أرصدتهم بالملايين باسم الدين؟ وأين هم من قلبوا حياة صحيحة إلى حياة متأزمة كل ما بها حرام؟

القضية ليست اعتذارا بل هي دعوة للإدراك بما فعلته الصحوة بنا.

Abdookhal2@yahoo.com