-A +A
أسامة يماني
مثل أي جهاز بشري تحتاج المؤسسات الدينية للتطوير والتحديث حتى تتماشى مع روح العصر وتدخل للمستقبل؛ فقد أصاب الجمود الفكري والركون للماضي والتراث والمفاهيم القديمة المؤسسات الدينية بضرر كبير تحتاج معه لكثير من الجهد لإصلاحه.

ولاشك أن الإصلاح يتطلب إرادة وقناعة وإيمانا بضرورة الإصلاح والتطوير للمؤسسات الدينية ومفاهيمها التي أصبحت جزءًا من الماضي في عصر الفضاء السيبراني والثقافة الرقمية والذكاء الصناعي ومفهوم صدام المعلومات الذي حل مكان صدام الحضارات.


لقد كتبت ذلك منذ 15 خمس عشرة سنة تقريباً في كتاب لي بعنوان «الجاهلية الحديثة» عن ضرورة التطوير والتغيير في بنية وفكر وآليات عمل المؤسسات الدينية لكي تتمكن هذه المؤسسات بالاضطلاع بدورها الروحاني، فالروحانيات والإيمانيات حاجة إنسانية، والدين يخلق معنىً لحياتنا ولوجودنا بعد موتنا. مع ضرورة إدراك أن التنوير المؤمن العقلاني هو الطريق الأفضل لمواجهة التنوير الإلحادي الإباحي المغرق في المادية.

إن التنوير أصبح ضرورة للخروج من الأصولية المُتشددة والظلامية الرجعية والإخونجية السياسية. وما نعيشه اليوم ونعاني فيه من المذهبية والطائفية والداعشية والظلامية والإخوانية، وخلط الدين بالسياسة، قد عاشته أوروبا قبل قرون قليلة، وخرجت منه بالتنوير، وتخلصت من التكفير للمذاهب الأخرى ومن اعتقاد بعضهم بأنهم الفئة الناجية الوحيدة وأن المُخالف في النار.

مع العلم بأن خروج الكنيسة من ميراث الأصولية المسيحية لم يعن نهاية الدين في أوروبا، وإنما نهاية الدين كأيديولوجية شمولية تتحكم بجميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وقد كتب الدكتور هاشم صالح كتاباً رائعاً بعنوان «مدخل إلى التنوير الأوروبي»، قال عن موضوعه في مقدمته: «وعلى مدار تأليفه كان يُخيَّل إلي أني أعيش التاريخ مرتين: المرة الأولى من خلال الصراع بين العقلانيين والأصوليين في أوروبا إبان العصور الخوالي، والمرة الثانية من خلال نفس الصراع الجاري حالياً بين المثقفين التحديثيين والأصوليين الإسلاميين... وإنخراطي في دراسة الأول أتاح لي فهم الثاني بشكل لم يسبق له مثيل، فالمقارنة هي أساس المعرفة والنظر».

قد لا يُدرك البعض مقدار الأزمة الفكرية التي نعاني منها، بالرغم من أنها ملموسة تتجلى وتظهر جلياً وبوضوح من خلال مُفرزاتها ومنتجاتها، مثل العصبية والطائفية والمذهبية والإقصائية والشمولية والأيدولوجية التي تتحكم في كل جوانب الحياة، ومن خلال مفاهيم تؤدي إلى القطيعة مع الآخر بل ومع الشريك في الوطن. وهذا ما انتجته الظلامية في الخمسين عاماً الماضية، التي تراجع فيه التنوير مقابل تسيّد وسيطرة هذا التيار على الإنسان وتعليمه ومعيشته وصحته.

التجديد الديني يتطلب دراسة تاريخ الأديان المقارن، والتراث الإبراهيمي، والعلاقة التي بينها والسعي للتلاقي في أسسها ومرتكزاتها. كما يحتاج التجديد الديني إلى قبول التنوع وإدخال المفكرين في هذه المؤسسات الدينية، وتفعيل الحوار البناء والتصالح مع النفس والآخر.

نحن لا نحتاج إلى اختراع العجلة بل إلى تحريكها والاستفادة من تجارب من سبقونا. ويجب أن يحل السلام بين الأديان؛ فلا سلام في العالم من غير سلام بين الأديان والمعتقدات.

ومن باب أولى أن يتم السلام بين المذاهب والفرق والطوائف في أوطاننا، ولن يصنع السلام مؤسسات لا تستطيع أن تتصالح مع بعضها ومع حاضرها، مؤسسات غير قادرة على مراجعة مفرداتها ومنظومتها.

* كاتب سعودي