-A +A
علي مكي
في الوقت الذي ستنشر فيه هذه السطور قبيل فجر اليوم السبت، سيكون فنان العرب «محمد عبده» لا يزال يتسيد مسرح دار الأوبرا المصرية العريقة، ويتربع على عرشها صادحاً بالغناء الموسمي في مثل هذا الوقت بالذات من كل عام للسنة الخامسة على التوالي. تعوّد «أبو نورة» خلال ما يقرب من نصف قرن أن يكون النجم الأوحد في كل حفلة ومسرح، لا يذكر سواه، لا شاعر ولا عازف، صوته الفريد هو صاحب الغلبة وفارس الجولة في كل الليالي!

هذه المرة وتحديداً في الأعوام الخمسة الأخيرة، حدث تحوّل (ما) في تجربة فناننا الكبير، فهو في كل سنة من هذه السنوات الخمس يقدم لجمهوره في شهر شعبان ألبوماً غنائياً جديداً يتنوع شعراؤه من كل المشارب وتختلف كلماته وقد تختلف موسيقاه وتتعدد وتتنوع لكن هذه الموسيقى بتوقيع واحد وبصمة أكاديمية رفيعة وعالية لا تدلّ إلاّ على الموسيقار الدكتور طلال الذي أصبح محور الحديث في مهرجانه السنوي في القاهرة ببحثه عن أفق جديد للموسيقى العربية وجد في صوت العرب نوافذ وأبوابا توصله لكل الناس، مثلما هو محمد محور الحديث من خلال الحفلة الأكاديمية ذاتها، وهو ما يعيدني إلى تاريخ الموسيقى العربية بنجومها الراحلين في القرن الماضي وبعض الباقين منهم حتى الآن، عندما كانت أم كلثوم وأسمهان وعبدالحليم حافظ ونجاة هم جواهر الفن الخالد، لكنهم لم يشتهروا لوحدهم فإزاء عملقتهم الغنائية صوتاً وأداءً كان هناك عمالقة خلفهم هم من أسهموا عميقاً في صناعة هذا الوهج الغنائي الخالص، فكانت أسماء مهمة تُقدَّم معهم مثل محمد عبدالوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي ورياض السنباطي وغيرهم، فلا يذكر الفنان دون الموسيقار الذي خلفه، بل إن صاحب النفس الموسيقي الهائل العميق المتعدد المتقلب المتصاعد قد يناله من الإعجاب ما يناله المغني في ذات الوقت!


سأعترف أنني كنت، في السابق، أريد أن ألتقي محمد عبده وأسأله سؤالاً واحداً هو: لماذا طلال؟ ولماذا هو الملحن أو الموسيقار الوحيد الذي تدع له حنجرتك في كل عام كي يقودها إلى ما ليس نعرف من خيالات ورؤىً تتسلق قوس قزح؟ هل هنا العلاقة فنية صرفة؟ أم تشوبها (منافع) - ما - كما يحاول البعض تكريس هذا التوهم؟ بل إنني كنت أرغب أن أسأله هذا السؤال في المؤتمر الصحفي الأخير الذي جرى قبل حفلته الكبرى بليلة، لولا أنه استبقني وقال كلاماً قصيراً عن علاقته بطلال وأنها علاقة أكاديمية رصينة، فالعمل والوقت الذي استهلكه إنجاز هذا الألبوم، ثم الوقت الذي استغرقه الإعداد لهذه الحفلة أو هذا المهرجان السنوي الضخم كفيل بأن يدلنا على أن العمل متنام ويتطور سنوياً بينهما، وفي كل سنة بعد أخرى يتجاوزان ما سبق ويتقدمان إلى ما هو أكثر بعداً وعمقاً في آن معاً، كأنما يشعران في كل مرة أنهما يقتربان أكثر من منطقة الشعر والموسيقى!

واحدة من المفاجآت السعيدة في حفلة القاهرة البارحة هي عودة الأمير خالد الفيصل عبر ثلاثة أعمال غناها فنان العرب وأكد أنها قصائد أقرب للفصحى، وهو شيء يحسب للموسيقار الدكتور «طلال»، فهو عندما يطلق شاعراً مجيداً من إطار الورق والأغلفة ويعيده إلى فضاءات (غناء) الحياة، فإنّ موسيقاه في ذات الوقت تجعلنا أن نفهم النصوص التي اختارها المطرب أو الملحن بشكل أكثر عمقاً وفلسفة!

ويقف بإخلاص في تحويل هذه المشاريع إلى واقع معاش المحب خالد أبو منذر وهو يحتفي بالفن والجمال والإبداع.

ألبوم «يا غافية قومي» جميل ويتجاوز «عمري نهر» بمراحل، وكلما ظهر موسيقارنا الكبير بعمل جديد متناغم ومكتمل عبر حنجرة الذهب الذي لا يصدأ «محمد عبده»، رفعتُ قبعتي احتراماً وقلت من حق «طلال» أن يعشق الظل ويحتمي به ويستمرّ في التواري، لأن المجد الحقيقي يصنعه الظلّ لا الضوء! وليس هذا وحسب، بل يجعله أيضاً في ديمومة لا تنتهي!