-A +A
نجيب يماني
من نافلة القول إن الحراك الجماهيري الكبير الذي يشهده السودان الشقيق هذه الأيام، ليس وليد لحظته، بل إنه محصلة لغبن متراكم، ومحاولات سابقة سعت بصبر ودأب إلى التخلّص من براثن «نظام الجبهة الإسلامية» الذي جثم على صدرالسودان لثلاثة عقود حسوماً، أفقر فيها البلاد، وشرد «الزول» السوداني الطيب، وجعله غريباً في وطنه، ومضاماً في أهله، ومهدور الكرامة في ربعه..

ولم أجد من قاموس التوصيفات ما يليق بالحقبة البائدة من حكم السودان، سوى أنه كان «نظاماً حربائياً ثعلبياً مراوغاً» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فالنظام السابق يعود في جذره التكويني الأساسي إلى حركة الإسلام السياسي، المنبثقة أصلاً وجوهراً عن تنظيم الإخوان المسلمين، بما يضمره من أفكار ثورية هدفها المعلن تغيير الأنظمة السياسية في البلدان العربية عبر مطية الدين والتدين تحقيقاً لهدف التمكين لـ«الجماعة»، مستبيحاً لنفسه لتحقيق تلك الغاية استغلال كل الوسائل المتاحة دون حرج، في سياق يتجاوز مفهوم «الميكافيلية» نفسه.. وهو عين ما شهدته الساحة السياسية السودانية في العقود المظلمة الماضية الثلاثة، فكلنا يتذكر أن «الإخوان المسلمين» بدلوا لافتتهم بمسمى «الجبهة الإسلامية»، واخترقوا الجيش السوداني وصولاً إلى الانقلاب على الدولة الديمقراطية في الثلاثين من يونيو 1989م، لتتحول اللافتة إلى «نظام الإنقاذ»، ثم «المؤتمر الوطني» لاحقاً..


لقد بدأ أول مظاهر الخديعة في ليلة الانقلاب، بما كشف عنه عرّاب النظام الدكتور حسن الترابي، حين اعترف بأنه «ذهب إلى السجن حبيساً وأرسل عمر البشير إلى القصر حاكماً»، في حيلة لكسب تأييد دول الجوار والمحيط الإقليمي، ريثما يلتقط النظام أنفاسه، ويتجاوز عقبة البدايات، والتي كانت ستنفجر في الحين لو علم الجميع أن الإنقلاب يعود إلى الإخوان المسلمين، كانت تلك أول مظاهر الخداع و«الحربائية» التي وسمت ذلك العهد البائد، والتي سار على نهجها في كل مراحل تقلباته السياسية، ففي الوقت الذي كان النظام في الخرطوم يرفع فيه شعارات الإسلام بصوت صارخ، أوهم المنفعلين بالأشواق الإسلامية أن السودان استطاع أن يمكّن لـ«دولة الخلافة الراشدة»، ويفتح الباب لأحلام «الإخوان» باقتفاء الأثر، واستلهام النموذج، كان واقع الحال يمضي باتجاه مغاير لهذه الصورة الناصعة، حيث وجد «الإخوان» ضالتهم من ملذات الحياة، فشردوا الآلاف من وظائفهم وأتاحوها لعضويتهم تحت ستار ما عرف بفترة «التمكين»، فانهارت الخدمة المدنية، وتحولت المؤسسات السودانية إلى «ضيعة حزبية» يعيث فيها «الإخوان» فساداً، وبلغ التنكيل بمن يرفع صوته بالمعارضة حدّاً من البشاعة لا يوصف، فأُنشئت لذلك دور عرفت بـ«بيوت الأشباح»، ومارس النظام أقسى أنواع الظلم والجور بأبناء السودان.. والنظام سادر في غيه وتهديد جيرانه، وفتح مطاراته لشذاذ الآفاق والإرهابيين ممن يتدثرون بعباءة «الجهاد» زوراً وباطلاً، وأصبح ذلك القطر المسالم مسرحاً لعبث «الإخوان» ومركزاً لتدريب المتطرفين والغلاة، وبلغ به الشطط والطموح الأرعن مبلغاً بعيداً بمحاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.. ثم كانت «المفاصلة» التي جرت بين عرّاب النظام «الترابي» ورأس النظام «البشير» بعد السنوات العشر الأولى، ولم يكن اختلاف مبادئ بقدر ما كان اختلاف سلطات ونفوذ، وظل صوت الخطاب الديني يعلو بينهما في سياق كوميدي بائس، والحرب في الجنوب تستعر، والموت في دارفور يخيم على الربوع، ولم يسلم شرق السودان نفسه من طائف الموت الزؤام.. والحيرة من ذلك كله تبلغ بالناس مبلغاً عظيماً، وهم يرون قطراً يتمزّق، وحرائر يتشردن، ومؤسسات تنهار.. و«البشير» تطلبه محكمة الجنايات للمحاسبة على ما اقترف نظامه من إبادة جماعية في دارفور.. مأساة تلو مأساة، وضنك في المعاش، وبؤس الحال يخيم على كل الوجوه.. ليرفع الأديب العالمي الطيب صالح صوت النكير والاستغراب بقولته المشهورة، والمعبرة عن تلك الحيرة، والواصفة لمآل السودان: «من أين أتى هؤلاء..؟ بل من هؤلاء الناس؟»..

سؤال لم يردع رهط «الإخوان»، فازدادوا جوراً على جورهم، لينفصل نصف السودان الجنوبي، بلا بواكي من النظام، وزاد الحريق في الغرب، وانتقل النظام البائد إلى حيلة المراوغة السياسية في تعامله مع دول الجوار، متنقلاً بخفة «قرد شقي» بين التيارات المتصارعة في المحيط القريب، وامتد بذات الخفة إلى الأبعد، ففتح الساحة السودانية للطموح الفارسي، في بلد لا يعرف التشيع والملالي، ولا يؤمن بالأحلام الإيرانية الشريرة، ولم يسلم السودان من ذلك الشر الماحق إلا بعد تدخّل من محاور الاعتدال التي استطاعت أن تعيده إلى الحضن العربي، لكن يبدو أنها كانت عودة قلقة، إذ لم ينس النظام نهجه المراوغ و«ثعلبية» تعاطيه مع الأحداث والمواقف، كما هو حال كل أنظمة الإخوان المسلمين منذ أن عرفناها، فتحول النظام إلى مربع «الابتزاز» السياسي، بعد عاصفة الحزم، وجعل يتنقل عبر مركب هذا الابتزاز بين محاور: التحالف، وقطر، وتركيا، فانكشفت سوءاته جميعها، وانمحت عنه كافة مساحيق التزين والخداع، وأصبح وجوده عبئاً على كافة المستويات، وثقيلاً على كل القلوب.. لتأتي ساعة الحزم وميقات الانتفاض، ليكتب الشعب السوداني سطر خلود جديد في سفره، بدحر هذه الطغمة الفاسدة التي جثمت على صدره ثلاثة عقود حسوما..

إن أمام الثورة التي قام بها شباب «الحرية والتغيير» عملاً ضخماً وعبئاً كبيراً لإعادة السودان الذي نعرفه، فعليها بدءاً أن تنجز فرض المحاسبة الضرورية لكل من أفقر وقتل وشرد وأذهب هيبة الدولة، ويرافق ذلك نهوض واستنفار للسواعد من أجل إصلاح ما أفسد، وبناء ما خرّب، وتعمير ما دمر.. إنها معركة سيجد من وطننا الغالي فيها العون والسند والمدد، وقد بادرت قيادتنا الرشيدة بإعلان وإرسال المعونات لأشقائها في السودان، دون منٍّ أو أذى، فذاك ديدن وطننا، وصنيع قيادتنا الحكيمة.. والله نسأل أن يقيض للسودان من يعيده إلى سابق عهده؛ زاهراً كما نحب، مورقاً كما نشتهي، أبياً كما عرفنا في أخلاق «الزول» الجميل.

* كاتب سعودي